إعداد: المهندس نبيل إبراهيم حداد

 مستشار في الهندسة، الصناعة، وإدارة المشاريع

في عالم المقاولات، كما في ميدان الحرب، لا يتحقق النجاح بمجرد توفر الموارد أو الأيدي العاملة، بل من خلال الاستراتيجية، والقيادة، وبعد النظر، والقدرة على التكيف، ووحدة الهدف.

إن التحفة الفكرية الخالدة «فن الحرب» التي كتبها الفيلسوف والقائد الصيني سون تزو قبل أكثر من 2500 عام، ما تزال حتى اليوم مرجعًا لكل من يسعى إلى القيادة الحكيمة في بيئات العمل المعقدة.

 فالمقاول الناجح يشبه القائد العسكري الذي يحقق النصر من خلال الانضباط والتخطيط والفهم العميق للظروف.

يستعرض هذا المقال كيف يمكن لمبادئ سون تزو القديمة أن توجه المهندسين والمقاولين ومديري المشاريع نحو الأداء المتقن والإدارة الواعية.

1. أسمى فنون الحرب هو تحقيق النصر دون قتال.

في عالم المقاولات، يعني ذلك حل المشكلات قبل أن تتفاقم إلى نزاعات.

 المقاول الذكي يتجنب الصدام عبر الوضوح في المستندات والتخطيط والإدارة الاستباقية.

إعداد بيان الطريقة (Method Statement)، وتقييم المخاطر (Risk Assessment)، وخطة إدارة الأداء (Performance Management Plan) بدقة يزيل أسباب سوء الفهم ويمنع الخلافات.

 الفن الحقيقي هو أن تحقق النجاح بالتوقع والتفاهم لا بالمواجهة.

2. اعرف نفسك واعرف عدوك، ولن تُهزم في مئة معركة.

في المناقصات وإدارة المشاريع، يأتي النصر من معرفة قدراتك الذاتية وفهم قدرات الآخرين.

اعرف نقاط قوة شركتك وضعفها—في الكفاءة الفنية، وهيكل التكلفة، وسجل الإنجاز.

 وافهم ما الذي يبحث عنه العميل—الكلفة؟ الجودة؟ الوقت؟ أم الموثوقية؟

النجاح لا يأتي من تقديم أقل الأسعار، بل من تقديم القيمة والثقة.

 الوعي الذاتي والتحليل السوقي هما سلاح القائد الناجح.

3.  في قلب الفوضى تكمن الفرصة

كل مشروع يواجه التحديات—تأخيرات، تغييرات في التصاميم، أو نقصاً في المواد.

 لكن المدير المتمكن، مثل القائد الحكيم، يبقى هادئًا ومرنًا وسط الاضطرابات.

فالأوامر التغييرية ليست دائماً مشكلة؛ بل فرصة لتصحيح المسار وتوضيح المسؤوليات وتعزيز الثقة مع العميل من خلال الشفافية والعدل.

4. من يعرف متى يقاتل ومتى لا يقاتل هو المنتصر.

ليس كل خلاف يستحق المعركة.

 فالمواجهة المفرطة تستنزف الجهد وتعيق التقدم.

التفاوض الاستراتيجي القائم على الحقائق والمستندات والاحترام المتبادل يحقق نتائج أسرع ويحافظ على العلاقات.

 المدير الحكيم يعرف متى يتمسك ومتى يتنازل لمصلحة المشروع ككل.

5. المحارب المنتصر ينتصر أولاً ثم يذهب إلى المعركة.

النصر يتحقق قبل بدء العمل، أي في مرحلة التخطيط والتنظيم والإعداد.

قبل البدء في أي مشروع، يجب التأكد من:

وضوح نطاق العمل

وجود تفويضات واضحة بالسلطة

تحديد الوصف الوظيفي ومسؤوليات الأداء لكل دور

إعداد البرامج الزمنية وخطط الطوارئ والموارد

عندما تكون المؤسسة جاهزة ومُنظمة، يصبح التنفيذ فعلاً مدروسًا لا مغامرة.

6.  التخطيط في فلسفة سون تزو

قال سون تزو: "المعركة تُكسب في المعبد قبل أن تُخاض في الميدان."

 أي أن التخطيط هو أساس النصر.

في المقاولات، يعني ذلك:

دراسة الموقع والظروف المحيطة بدقة.

تقييم القدرات الفنية والمالية للمؤسسة.

إعداد خطط بديلة للطوارئ والتوريد.

توثيق المعلومات والسيطرة على التقارير.

اتخاذ القرارات المتوازنة المدروسة في الوقت المناسب.

فالمشروع الذي يُخطط له جيدًا هو مشروع بُني نصفه مسبقًا.

7. التدريب وتطوير المهارات — "الجيش المدرب ينتصر قبل أن يبدأ القتال."

أكّد سون تزو أن الانضباط والتدريب هما أساس النصر.

وفي المقاولات، يتحقق ذلك من خلال:

التدريب المستمر في السلامة والجودة والإدارة والقيادة.

تمارين الاستعداد للطوارئ أو التغييرات الفنية.

تنمية القيادة في جميع المستويات.

نقل الخبرة من المهندسين المخضرمين إلى الجيل الجديد.

رفع المعنويات والانضباط لضمان الأداء المستقر.

الاستثمار في الأفراد هو استثمار في الاستقرار والسمعة والنجاح.

8.  إدارة أصحاب المصلحة — "كل حرب تقوم على الخداع، ولكن كل نصر يُبنى على التحالفات."

تتحول هذه الحكمة في عالم المقاولات إلى إدارة فعالة لأصحاب المصلحة.

التعرف المبكر على جميع الأطراف: العميل، الاستشاري، المقاولون الفرعيون، الموردون، والجهات الرسمية.

فهم دوافع كل طرف واحتياجاته.

التواصل المسبق والشفاف لتفادي النزاعات.

بناء تحالفات قائمة على الثقة لتسريع القرارات.

حل الخلافات قبل أن تتطور إلى نزاعات.

النجاح المستدام في المشاريع لا يبنى على المواجهة، بل على الاحترام المتبادل والتعاون الذكي.

9.  المرونة — "كن مثل الماء."

قال سون تزو: "الماء يرسم طريقه بحسب طبيعة الأرض التي يسيل فوقها."

 الماء لا يقاوم العقبات بل يتكيف ويتجاوزها بذكاء.

وفي عالم المقاولات، تعني هذه الحكمة:

المرونة في التنفيذ عند مواجهة التحديات.

حل المشكلات بأقل مقاومة ممكنة.

التنسيق السلس بين الفرق المختلفة في المشروع.

تقليل الاحتكاك من خلال الدبلوماسية والتفاهم.

الثبات النفسي رغم الضغوط والتغيرات.

أن تعمل "كالماء" يعني أن تبقى مرنًا وموجهًا نحو الهدف دون أن تُستنزف في الصدام.

10. عامل رجالَك كما تعامل أبناءك، وسيتبعونك إلى أعمق الوديان."

القيادة ليست سلطة، بل علاقة مبنية على الثقة والاحترام.

القائد الحقيقي:

يحدد الأدوار بوضوح

يحافظ على سلامة الفريق

يقدّر الجهود بعدل

عندما يشعر الفريق بالانتماء والتقدير، يتحول إلى قوة إنتاجية مخلصة لا تُقهر.

11. السرعة جوهر الحرب."

العمل السريع يمنع الأزمات، لكن السرعة دون دقة خطر بحد ذاتها.

السرعة الفاعلة تتحقق من خلال:

تفويض السلطة كتابةً

تحديد الصلاحيات والمسؤوليات بدقة

نظام اتصال فعّال وواضح

المدير المُمكَّن يتخذ القرار في وقته، فيُجنب المشروع التأخير والخسائر.

الخلاصة: فن إدارة المقاولات

المقاولات ليست مجرد جداول زمنية وهياكل خرسانية؛ بل هي فن القيادة والتخطيط والمرونة وبناء التحالفات.

وكما علّمنا سون تزو، فإن أعظم الانتصارات هي تلك التي تتحقق دون قتال، من خلال التحضير والانضباط والحكمة.

من يطبق فن الحرب في الهندسة والصناعة وإدارة المشاريع، يدرك أن النصر الحقيقي لا يكمن في هزيمة الآخرين، بل في إتقان الذات والفريق والمهمة — بثباتٍ وحكمةٍ وشرف.