كيف قتلت الصهيونيّة العالَم الإسلاميّ-اليهوديّ؟
ترفض مخرجة الأفلام والقيّمة الفنية والأكاديمية
أرييلا عائشة أزولاي، المولودة في إسرائيل، الهوية الإسرائيلية. كانت والدتها، قبل
أن تصبح إسرائيلية في سن التاسعة عشرة، يهودية فلسطينية. على مدى جزء كبير من
التاريخ، لم يكن ثمة شيء غير عادي في هذا المزيج من الكلمات. وعاشت في فلسطين
أقلية يهودية بسلام إلى جانب الأغلبية المسلمة لقرون عدة.
لقد تغير هذا مع الحركة الصهيونية وتأسيس
إسرائيل. لقد أدّى التطهير العرقي لليهود من أوروبا، بفضل الصهاينة الأوروبيين،
ليس فقط إلى تطهير المسلمين من فلسطين، بل أيضًا إلى تطهير اليهود من بقية الشرق
الأوسط، مع فرار ما يقرب من مليون يهودي منهم نتيجة للحرب العربية الإسرائيلية عام
1948، وكثيرٌ منهم توجّهوا إلى إسرائيل.
تضع أزولاي، في مقابلة مع جاكوبين، الإبادة
الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة في سياق التاريخ الطويل للإمبريالية
الأوروبية والأميركية. أزولاي أستاذة الأدب المقارن في جامعة براون ومؤلفة كتاب
التاريخ المحتمل: نبذ الإمبريالية 2019(Potential History: Unlearning Imperialism).
ليندا شيزا
تعرّفين نفسكِ بأنك يهودية فلسطينية. هل يمكن أن
تخبرينا أكثر عن هذا؟ تعد هذه الكلمات بالنسبة للعديد من الناس متناقضة.
أرييلا عائشة أزولاي
إن فهم هذه الكلمات على أنها متناقضة واحدٌ من
أعراض قرنين من العنف. حُرم اليهود من مشارب الأرض كافة من ارتباطاتهم المختلفة
بالأرض واللغات والمجتمعات والمهن وأشكال مشاركة العالم. السؤال الذي ينبغي أن
يشغلنا ليس حول كيفية فهم الاستحالة المفترضة للهوية الفلسطينية اليهودية، بل
العكس: كيف أصبحت الهوية الملفقة والمعروفة بالهوية الإسرائيلية معترفاً بها من
الكثيرين في جميع أنحاء العالم بعد إنشاء الدولة في عام 1948 على أنها هوية عادية؟
لا تحجب هذه الهوية تاريخ وذاكرة المجتمعات المتنوعة وأشكال الحياة اليهودية فحسب،
بل تحجب أيضًا تاريخ وذاكرة ما فعلته أوروبا باليهود في أوروبا وفي إفريقيا وآسيا
في مشاريعها الاستعمارية.
ولإسرائيل مصلحة مشتركة مع تلك القوى
الإمبريالية في إخفاء حقيقة أن «دولة إسرائيل لم تنشأ من أجل خلاص اليهود، لقد
أنشئت من أجل إنقاذ المصالح الغربية» كما كتب جيمس بالدوين في عام 1979 في رسالة
مفتوحة إلى المولودين من جديد(Open Letter to the Born Again)،
حيث يُقارن بالدوين بوضوح المشروع الاستعماري الأوروبي الأميركي لليهود مع المشروع
الأميركي للسود في ليبيريا: «إن الأميركيين البيض المسؤولين عن إرسال العبيد السود
إلى ليبيريا (حيث يتواصل استعبادهم في مزرعة فايرستون للمطاط) لم يفعلوا ذلك
لتحريرهم، بل كانوا يحتقرونهم، وأرادوا التخلص منهم».
قبل إعلان دولة إسرائيل والاعتراف الفوري بها من
القوى الإمبريالية، كانت الهوية الفلسطينية اليهودية واحدة من الهويات العديدة
التي كانت موجودة في فلسطين. ولم يكن مصطلح «الفلسطيني» بعد يحمل معنى عنصريًا.
أسلافي من جهة أمي، الذين طُردوا من إسبانيا في أواخر القرن الخامس عشر، انتهى بهم
الأمر في فلسطين قبل أن تبدأ الحركة الأوروبية الصهيونية نشاطها هناك، وقبل أن
تبدأ الحركة تدريجيًا في الخلط بين مساعدة اليهود ردًا على الهجمات المعادية
للسامية في أوروبا وبين فرض مشروع استعماري أوروبي الطراز يشارك فيه اليهود، وهو
مشروع لا يُفسَّر على أنه مشروع تحرر يهودي فحسب، بل يرتكز على الحملات الصليبية
الأوروبية ضد العرب. يتطلب إنهاء الاستعمار استعادة الهويات التعددية التي كانت
موجودة ذات يوم في فلسطين وأماكن أخرى في الإمبراطورية العثمانية، ولا سيما تلك
التي يتعايش فيها اليهود والمسلمون.
ليندا شيزا
تناقشين في فيلمك الأخير العالم كجوهرة في كف
اليد 2022(The World Like a Jewel in the Hand) دمار العالم الإسلامي-اليهودي المشترك. لقد أبرزتِ دعوة اليهود
الذين رفضوا في أواخر الأربعينيات الحملة الصهيونية الأوروبية وحثوا إخوانهم
اليهود على مقاومة تدمير فلسطين. نظرًا للتدمير الأخير للحياة والبنية التحتية
والآثار في غزة [في إشارة لحرب الإبادة الجماعية التي بدأت في أكتوبر 2023]، هل
تعتقدين أنه ما يزال من الممكن لليهود والمسلمين استعادة عالمهم المشترك؟
أرييلا عائشة أزولاي
لأجيبك أولًا على الجزء التاريخي، فقد سعى الصهاينة
إلى محو هذه الدعوة التي أطلقها اليهود المناهضون للصهيونية من ذاكرتنا إلى الأبد.
كان هؤلاء الأعيان اليهود جزءًا من العالم اليهودي الإسلامي، ولم يرغبوا في الخروج
منه. وحذروا من الخطر الذي تشكله الصهيونية على اليهود أمثالهم في جميع أماكن
تواجدهم بين شمال إفريقيا والشرق الأوسط، بما في ذلك في فلسطين.
آثار الدمار جراء حرب
الإبادة الجماعيّة التي تشنّها إسرائيل على غزّة (Getty)
وعلينا أن نتذكر أن الصهيونية كانت، حتى نهاية
الحرب العالمية الثانية، حركة هامشية وغير مهمة بين الشعوب اليهودية في جميع أنحاء
العالم. وبالتالي، فلم يكن أعياننا، حتى ذلك الوقت، مضطرين إلى معارضة الصهيونية،
بل اختاروا تجاهلها فحسب. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، عندما لم يكن لدى
اليهود الباقين على قيد الحياة في أوروبا، الذين لم يكونوا في الغالب صهاينة قبل
الحرب، أي مكان يذهبون إليه تقريبًا، اغتنمت القوى الإمبريالية الأوروبية
الأميركية الفرصة لدعم المشروع الصهيوني. كان ذلك بالنسبة لهم بديلًا قابلًا
للتطبيق عن بقاء اليهود في أوروبا أو الهجرة إلى الولايات المتحدة، واستخدموا
الأجهزة الدولية التي أنشأوها لتسريع تحقيق ذلك.
وروجوا بذلك للكذبة القائلة بأن أفعالهم تشكل
مشروعًا لتحرير اليهود، في حين أن هذا المشروع، في الواقع، أدى إلى إدامة القضاء
على المجتمعات اليهودية المتنوعة خارج نطاق أوروبا. والأسوأ من ذلك هو أن تحرير
اليهود قد استُغِل كرخصة وسبب لتدمير فلسطين. ولم يكن من الممكن تحقيق ذلك دون تحول
عدد متزايد من اليهود إلى مرتزقة أوروبا: اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين في أثناء
فرارهم من الإبادة الجماعية في أوروبا أو بعد نجاتهم منها، واليهود الفلسطينيون
الذين سبقوا وصول الصهاينة، وأولئك الذين استُدرجوا إلى فلسطين، أو الذي لم يكن
أمامهم من خيارٍ سوى الخروج من العالم الإسلامي اليهودي بعد تأسيس إسرائيل، بأجندة
واضحة، لتكون دولة معادية للمسلمين ومعادية للعرب، وقد شجعتهم أوروبا والصهاينة
الأوروبيون على رؤية العرب والمسلمين كأعداء لهم.
ويجب ألا ننسى أن المسلمين والعرب لم يكونوا
أبدًا أعداء لليهود، بل إن العديد من هؤلاء اليهود الذين كانوا يعيشون في العالم
ذي الأغلبية المسلمة كانوا هم أنفسهم عربًا. وحصل التناقض بين العروبة واليهودية
فقط مع قيام دولة إسرائيل.
مكَّن تدمير العالم اليهودي-الإسلامي في أعقاب
الحرب العالمية الثانية من اختراع التقليد اليهودي-المسيحي، والذي سيصبح منذ تلك
اللحظة فصاعدا حقيقة واقعة، لأن اليهود لم يعودوا يعيشون خارج العالم الغربي
المسيحي. لقد تطلب بقاء النظام اليهودي في إسرائيل المزيد من المستوطنين، وبالتالي
اضطر يهود العالم الإسلامي-اليهودي إلى المغادرة ليصبحوا جزءًا من هذه الدولة العرقية.
ومع عزلهم وحرمانهم من تاريخهم الغني والمتنوع، يمكن إدماجهم اجتماعيًا في هذا
الدور الذي أسندته لهم أوروبا، أي مرتزقة هذا النظام الاستعماري الاستيطاني
لاستعادة القوة الغربية للشرق الأوسط.
لا يقلل فهم هذا السياق التاريخي من مسؤولية
مرتكبي الجرائم الصهاينة عن الجرائم التي ارتكبوها ضد الفلسطينيين على مدى العقود
الماضية، بل إنه يذكر بدور أوروبا في تدمير وإبادة الجاليات اليهودية على نحو خاص،
ولكن ليس فقط في أوروبا، وفي دورها في تسليم فلسطين للصهاينة، الممثلين المزعومين
للناجين من هذه الإبادة الجماعية، والذين شكلوا قاعدة عسكرية غربية لنفس هذه
الجهات الأوروبية الفاعلة في الشرق الأوسط.
ومن المفارقة أن المكان الوحيد في العالم الذي
يتقاسم فيه اليهود والعرب، وأغلبهم مسلمون، نفس قطعة الأرض اليوم هو المكان بين
نهر الأردن والبحر المتوسط. لكن منذ عام 1948، أصبح هذا المكان معروفًا بعنف
الإبادة الجماعية. والسؤالان الملحان الآن هما كيفية وقف الإبادة الجماعية وكيفية
وقف إدخال المزيد من الأسلحة إلى هذه المنطقة.
تهجير الفلسطينيّين من
قراهم عام 1947(Getty)
تصف حنة أرندت في كتابها أيخمان في القدس (Eichmann in
Jerusalem)،
المشاعر المتناقضة التي انتابت الناجين اليهود من المحرقة خلال السنوات التي قضوها
في معسكرات النازحين في أوروبا. وقالت إن آخر ما كانوا يتخيلونه من ناحية أن
يعيشوا مرة أخرى مع الجُناة، ولكن ومن ناحية أخرى، كان أكثر ما يريدون هو العودة
إلى بيوتهم وأماكنهم. لا ينبغي لنا أن نتفاجأ أنه بعد هذه الإبادة الجماعية في
غزة، بألّا يتمكن الفلسطينيون من تصور تقاسم العالم مع قاتليهم الإسرائيليين. هل
هذا دليل على أن هذا العالم، حيث يوجد العرب واليهود الصهاينة أنفسهم معًا، يجب
أيضًا تدميره لإعادة بناء فلسطين من تحت الرماد؟ ففي ظل الخيال السياسي
الإمبراطوري الأوروبي الأميركي فقط كان من الممكن أن تنتهي مأساة بحجم الحرب
العالمية الثانية والمحرقة بحلول وحشية مثل التقسيم، والترانزفسير، والاستقلال
الإثني اليهودي، وتدمير العوالم.
نحن، على المستوى العالمي، لدينا التزام
بالمطالبة بما أسميته الحق في عدم كوننا جناة، وممارسته بأي طريقة ممكنة. عمال
الموانئ الذين يرفضون شحن الأسلحة إلى إسرائيل، والطلاب الذين يلتزمون بالإضراب عن
الطعام للضغط على جامعاتهم لسحب استثماراتهم، واليهود الذين يعطلون مجتمعاتهم
وعائلاتهم ويطالبون بحقوق أجدادهم في أن يكونوا مناهضين للصهيونية ويتحدثون عنها،
والمتظاهرون الذين يحتلون مباني الدولة ومحطات القطارات والمخاطرة بالاعتقال، كلهم
مدفوعون بهذا الحق حتى لو لم يعبروا عنه بهذه المصطلحات. إنهم يفهمون الدور الذي
تؤدّيه حكوماتهم، وعلى نطاق أوسع الأنظمة التي يُحكَمُون فيها كمواطنين، في إدامة
هذه الإبادة الجماعية، ويفهمون، كما يقول الشعار الشائع، إنّ تلك الإبادة تقع
باسمهم.
ليندا شيزا
والذين يدعون إلى وقف إطلاق النار هم يهود
أيضًا. ولكن حتى الأصوات اليهودية يتم إسكاتها الآن. ففي ألمانيا، على سبيل
المثال، أُلغيت فعاليات الفنانين اليهود المعروفين. هل تعتقدين أن ثمة مصلحة في
تعزيز الخطاب السائد الذي بدأ منذ عام 1948 من الغرب ودولة إسرائيل مع قمع الأصوات
اليهودية التي تعارض العنف المرتكب باسمهم؟
أرييلا عائشة أزولاي
صحيح أنه يتم إسكات الأصوات اليهودية، لكن هذا
ليس بالأمر الجديد، فقد أُسكِتت الأصوات اليهودية مباشرة بعد الحرب العالمية
الثانية، عندما لم يكن أمام الناجين من خيار سوى البقاء لسنوات في معسكرات
الإبادة. خلال تلك الفترة، قُسِّمت ممتلكاتهم التي نهبت من مجتمعاتهم، بين المكتبة
الوطنية في القدس ومكتبة الكونغرس في واشنطن مثل جوائز، بدلًا من إعادتها إلى
الأماكن التي سلبت منها في أوروبا. ولم يقتصر الأمر على عدم الاهتمام بالصدمة
الجماعية للناجين، ولنا نحن أحفادهم، فحسب، بل أُسكِتْنَا من خلال كذبة مشروع
التحرير القائم على السردية الصهيوني للتحرير من خلال استعمار فلسطين، والذي بدوره
سيوفر للقوى اليورو-الأميركية مستعمرة أخرى لخدمة مصالحها الإمبريالية.
لم يكن جعل معاناة اليهود استثناءً مشروعًا
خطابيًا يهوديًا، بل كان مشروعًا غربيًا، وهو جزء من استثنائية عنف الإبادة
الجماعية التي ارتكبها النازيون. وأصبحت دولة إسرائيل، في السردية الكبرى للانتصار
الغربي على قوة الشر المطلقة هذه، رمزًا للثبات الغربي وكانت علامة على صمود
المشروع الإمبريالي اليورو-أميركي. وفي إطار هذه السردية الكبرى، أُجبر اليهود على
التحول من ناجين مصابين بصدمات نفسية إلى جناة. أُرسِل اليهود من جميع أنحاء
العالم للفوز بالمعركة الديموغرافية، والتي بدونها لا يمكن للنظام الإسرائيلي أن
يستمر. الجيل الثاني والثالث الذين ولدوا في هذا المشروع ولدوا بلا تاريخ أو
ذكريات عن أسلافهم المناهضين للصهيونية أو غير الصهيونية، ناهيك عن ذكريات العوالم
الأخرى التي كان أسلافهم جزءًا منها. والأكثر من ذلك، أنهم كانوا منفصلين تمامًا
عن تاريخ فلسطين وعن تدميرها. وهكذا، كانوا فريسة سهلة للدولة القومية التي قام
الصهاينة والقوى اليورو-الأميركية بتسويقها على أنها تتويج لتحرير اليهود.
وبهذا المعنى، لم تكن النكبة مجرد حملة إبادة
جماعية ضد الفلسطينيين، بل كانت أيضًا، في الوقت نفسه، حملة ضد اليهود، الذين فرضت
عليهم أوروبا «حلًا» آخر بعد الحل الأخير. ولولا تمويل وأسلحة القوى الإمبريالية
الهائلة، لكان القتل الجماعي في غزة قد توقف بعد فترة قصيرة، ولكان على
الإسرائيليين أن يسألوا أنفسهم ماذا كانوا يفعلون، وكيف وصلوا إلى هذه النقطة،
ولكانوا مجبرين على حساب أنفسهم على ما فعلوه بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولكان
عليهم أن يسألوا أنفسهم، لِمَ حدث ذلك، وكيف نحقق حياة مستدامة للجميع بين النهر
والبحر.
يتواصل إسكان الأصوات اليهودية في أماكن مثل
ألمانيا أو فرنسا من أجل الحفاظ على المستعمرة الصهيونية والتماسك المصطنع لشعب
يهودي واحد يمكن تمثيله بقوى تدعم مشروع التفوق الأبيض اليورو-الأميركي، وليس
أكثر. إن طبيعة الإبادة الجماعية التي يمارسها النظام الإسرائيلي أصبحت مكشوفة،
ولم يعد من الممكن إخفاؤها عن أحد.
ليندا شيزا
هل تعتقدين أنه ما يزال يوجد أمل للفلسطينيين،
وللبقية منا الذين يريدون المطالبة بعالم يتشاركونه مع الآخرين؟
أرييلا عائشة أزولاي
إذا لم يكن هناك أمل للفلسطينيين، فلن يكون هناك
أمل لأي منا. إن معركة فلسطين تتجاوز فلسطين، والكثير من المحتجين في جميع أنحاء
العالم يعرفون ذلك
نقلا عن عرب 48