ترتيبات أمنية في سوريا: بلا تطبيع.. بلا عقوبات.. وبلا معنى تقريبا!


د. لينا الطبال
يبدأ كل شيء بضحكة قصيرة، ساخرة، في
مدينة بلا كهرباء. ضحكة تأتي قبل الكارثة. أنتم أيضا، ستضحكون على ما يسمونه
"اتفاقا أمنيا”… سيطلّ الرئيس أحمد الشرع بعد أيام، سيبتسم، سيقرأ الجملة ببطء،
وسيختم بنفس الابتسامة…
ها هو الآن الرئيس السوري أحمد الشرع
بوجهه الذي يشبه خارطة سوريا الجديدة… واقع ممزق، مناطق نفوذ متناحرة، تقسيمات
طائفية وسياسية، حدود وهمية، وخراب يغطي البلاد… يطلّ ليخبرنا أن واشنطن لا تضغط
على دمشق للتوصل إلى اتفاق مع إسرائيل. يا للروعة! طبعا لا تضغط. هي لا تُتعب
أصابعها بالضغط… الضغط يصبح فائض قوة حين تكون البُنى ذاتها مبرمجة للاستجابة من
تل أبيب إلى دمشق، مرورًا بالمجال الجوي للشرق الأوسط.
منذ ربع قرن لم تطأ أقدام وزير خارجية
سوري أرض واشنطن. والآن يذهب الشيباني إلى هناك، لا يطالب بالجولان، ولا يذكر
باللاجئين الذين أصبحوا قارة جديدة، جاء ليبحث كيف تتحول سوريا إلى "مساحة عازلة”
بين إسرائيل وإيران… الصفقة واضحة: رفع العقوبات، تسهيلات أمنية، اعتراف ضمني بأن
الدولة السورية لم تعد دولة… أصبحت وظيفة أمنية.
الولايات المتحدة الأميركية تحب الشروط،
تحب القوانين، تحب أن تبيعك الهواء… والشيباني يعرف، وأنت تعرف، والجميع يعرف، أن
القنابل ستسقط في النهاية… لكن ضمن "الإطار القانوني للاتفاق”.
أحد البنود الجوهرية التي تم طرحها على
طاولة الاجتماع تمثلت في "منع تمركز حزب الله أو القوات الإيرانية أو أي جهة
تُعتبر معادية لإسرائيل في التواجد جنوب سوريا”.
كل شيء يدور حول حزب الله وإيران… البند
الأول، البند الأخير، البند الوحيد: لا قوات معادية لإسرائيل في جنوب سوريا.
إسرائيل تريد السماء، والأرض. والجنوب ستقوم بتقسيمه إلى مناطق منزوعة السلاح،
مناطق منزوعة الكرامة… شيء يشبه اتفاقيات "السلام” في الشرق الأوسط…
في ظل هذه المقاربات البراغماتية، قدمت
إسرائيل هدية الأمن هذه إلى سوريا… الأمن كلمة جميلة، بريئة كطفل… لكن الأمن في
سوريا يعني أن إسرائيل ستبقى في السماء، وأن الجيش السوري سيغادر أرضه طائعا، وأن
الجنوب سيُقسم إلى مناطق…
إسرائيل أرسلت إلى دمشق شرح مفصل لما
تسميه "اتفاق أمني جديد”، مرفق بخريطة… نعم! ليملأها أحمد الشرع بالألوان
كما يفعل الأطفال في دفاتر الرسم. على الورق، تعيد إسرائيل تسمية القرى، ترسم
بخطوط سوداء مناطق نزع السلاح من جنوب غرب دمشق حتى الحدود. وحدهم أهل الجنوب
يراقبون قراهم التي تم تدميرها مرتين تنتظر المرة الثالثة.
أطفال المخيمات، الذين صاروا
رجالا، ينتظرون الخريطة الجديدة لتقرر مصيرهم بين "المنطقة أ” أو "المنطقة ب”…
هذا الاقتراح الأمني الإسرائيلي مستوحى
من تجربة السلام مع مصر: مناطق "أ” و”ب” و”ج”… حروف تتكاثر على الخريطة وتشبه
الكوارث في الشرق الأوسط.
سيتم تقسيم الجنوب السوري إلى أحزمة
جغرافية، شيء رائع، أليس كذلك؟
الحروب في الشرق الأوسط دائما تنتهي
بهذه التفاصيل الرومانسية… تفكيك الدولة تحت شعار الاستقرار.
وأخيرا، سيصبح لاحمد الشرع "اتفاقية أمن
مع إسرائيل”، وسيُعلن عنها بابتسامة فقط. سيقول إن هذا الاتفاق هو ضرورة قصوى…
وهذا كل ما سيقوله… جملة واحدة وابتسامة. رائع! تماما كما كانت الحرب ضرورة،
والموت ضرورة، والخيانة ضرورة…
تفاهم أمني يقوم على اتفاق عدم الاقتتال
بين الجانبين (السوري والإسرائيلي)… اتفاق جديد، مثل كل الاتفاقيات القديمة:
سيُعاد بموجبه رسم الخريطة، ستُمنع الدبابات من الاقتراب، ستطير الطائرات
الإسرائيلية بحرية فوق أرض لا تملك حتى الحق في الدفاع عن النفس.
نسيت أن أقول لكم إنه من بين النقاط
التي طرحها هذا الاتفاق أيضا أن "تكون المنطقة الحدودية خالية من الجيش السوري”،
وأن تتواجد قوات أمن أخرى غير مزودة بأسلحة ثقيلة، يقتصر دورها على حفظ النظام
فقط. أي نظام؟ الجنود السوريون الذين حاربوا طيلة عقود يتم طردهم من الحدود كضيوف
ثقيلين على وطن لم يعد يعرف نفسه.
أي أمن هذا الذي يبدأ بإخراج الجيش
السوري من حدوده، وينهيه بإبقاء الطائرات الإسرائيلية فوق سماء دمشق؟ أي سيادة هي
هذه؟
واشنطن تعرف ماذا تفعل، تريد منع
الانفجار الكبير وترك الصراعات الصغيرة تشتعل عند الحاجة. وستسمي هذا "اتفاق
أمني”. لكنه في الحقيقة اتفاق لتقاسم النفوذ:
أميركا تريد تهدئة مع إيران دون حرب،
إسرائيل تريد حدود آمنة دون أن تتنازل
عن شيء…
إسرائيل تريد تحويل الجنوب السوري إلى
منطقة منزوعة السيادة الفعلية، أشبه بحزام أمني غير معلن.
ودمشق تريد شرعية دولية ولو بتنازلات
أمنية وجيوسياسية، حتى لو كان الثمن تفريغ السيادة من معناها… لكن لا تنسَ، سيتم
رفع العقوبات جزئيا او نهائيا…
وحده الشعب السوري سيبقى خارج المعادلة،
يراقب ويعيد ترتيب حياته للمرة الألف، تحت سقف الطائرات الإسرائيلية ووعود عن دولة
قوية قد لا تأتي.
هل تتفق معي الآن أن هذا الاتفاق الأمني
لن يعيد بناء الدولة،
ولن يعيد اللاجئين،
ولن يُنهي المأساة السورية؟
سيؤجل فقط الانفجار القادم، لا أكثر،
لأنه يعالج الأعراض لا الأسباب:
لا إصلاح سياسي،
لا مشروع وطني جامع،
ولا إنهاء للتدخلات الخارجية المتصارعة
على الأراضي السورية.
إسرائيل تكرر اليوم ما فعلته مع مصر في
سيناء وما تحاول فرضه في غزة: "أمن بلا سيادة”، بحيث تصبح الحدود مناطق رمادية لا
جيش فيها، ولا مقاومة، ولا حتى سلطة وطنية مستقلة القرار.
لكن لا بأس… دمشق توافق، تل أبيب توافق،
وواشنطن توافق. أما الشعب السوري، سكان الأرض أنفسهم، فلا أحد سألهم عن رأيهم. كما
في كل "الاتفاقيات” السابقة في الشرق الأوسط، الشعب هو آخر من يُستشار… ترتيب أمني
يتجاهل تماما مأساة الملايين من السوريين الذين دمر الصراع حياتهم والعقوبات
والانقسامات… لا أحد يسألهم عن اللاجئين، ولا عن القرى المدمرة، ولا عن الشهداء،
ولا عن المخطوفات، ولا عن الكهرباء التي تأتي ساعة وتغيب عشرة.
في النهاية، أحمد الشرع يريد دولة قوية…
بلا شعب تقريبا…
وهو سيحصل على اتفاق أمني يشبه كل شيء
في الشرق الأوسط: "الكرامة والسيادة” التي لا تأتي في أي اتفاق.
اكاديمية وباحثة – باريس