العمل بذكاء في الشركات الناشئة، التكامل بين التعلم المنظم ومنحنى التعلم


د. جهاد يونس القديمات
يمكن القول أن العمل بذكاء (Smart Work) يعني إنجاز المهام وتحقيق أهدافها بأفضل طريقة ممكنة من حيث الكفاءة والفعالية، أي باستخدام أقل وقت وجهد وتكاليف ممكنة مع تقليل الهدر، وفي الوقت نفسه الحصول على أفضل النتائج الممكنة مع الحفاظ على الجودة أو تحسينها، ويختلف العمل بذكاء عن العمل بجهد (Hard Work)، الذي يركز على بذل جهد مكثف ووقت طويل لاداء المهمات، بينما يركز العمل بذكاء على الاستفادة من الأدوات، والتنظيم، والتخطيط، والإبداع للوصول إلى النتائج نفسها أو أفضل، ولكن بطريقة أسهل وأسرع، وبمعنى آخر ان العمل بذكاء لا يعني إلغاء الجهد، بل توجيهه بحكمة لتحقيق أقصى استفادة بأقل استخدام ممكن للموارد، مما يؤدي إلى تحسين الإنتاجية والكفاءة بشكل مستدام.
لا يقتصر العمل بذكاء على بيئة المصانع أو الإنتاج المادي، بل يشمل أيضا
شركات الخدمات بمختلف أنواعها، مثل: التعليم، والبنوك، والسياحة، والصحة، والتكنولوجيا،
وحتى الأعمال الحرة، ففي البنوك والمنظمات المالية تستخدم الأنظمة الرقمية لتقليل
الوقت المستغرق في المعاملات، وتوفير الخدمات عبر التطبيقات بدلا من الطوابير
الطويلة، أما في شركات الإتصالات فيتم الإعتماد على الأنظمة الذكية لحل شكاوى
العملاء بسرعة عبر الذكاء الإصطناعي أو الردود الآلية، والمراقبة بشكل استباقي
بدلا من انتظارالأعطال، كذلك الحال في التعليم: استخدام التعليم الإلكتروني والمنصات
التفاعلية لتوصيل المعلومة بشكل أسرع وأسهل، وتخصيص التعلم (Personalized Learning) حسب مستوى الطالب، إضافة
إلى الإعتماد على السجلات الطبية الإلكترونية لتفادي ضياع الملفات، واستخدام
الذكاء الإصطناعي في التشخيص لتقليل الأخطاء الطبية في المستشفيات والمراكز
الصحية، وتنظيم الرحلات وحجوزات الفنادق عبر تطبيقات ذكية بدلا من الطرق
التقليدية، وتتبع الشحنات أو الحقائب عبر أنظمة رقمية تقلل من الأخطاء في شركات
السياحة والخدمات اللوجستية. ان العمل بذكاء بالنسبة للمنظمات، يدفعها لوضع خطة
واضحة لتفادي العشوائية وإهدار الوقت، وترتيب الأولويات وفق لمبدأ "الأهم
فالمهم"، والإستفادة من الأدوات الرقمية والبرمجيات لتسريع العمل، والبحث عن
طرق جديدة وأفضل لإنجاز المهام، كذلك توزيع المهام على الأفراد بحيث يعمل كل فرد
فيما يتقن، وايجاد حلول غير تقليدية للمشكلات بدلا من تكرار نفس الأسلوب.
فيما يتعلق العمل بذكاء للأفراد في المنظمات، فتعني قدرة الموظف على التميز
بين المهم والعاجل، والتركيز على الجهد الذي يحقق أكبر قيمة للمنظمة، إضافة إلى
استغلال برامج إدارة الوقت أو أدوات الأتمتة لتقليل الأعمال الروتينية، كذلك تطوير
المهارات الفردية بشكل دائم (لغات، برمجة، مهارات تواصل…) ليبقى أكثر إنتاجية وقابلية
للتكيف، واستمرار البحث عن حلول جديدة تقلل من الوقت والتكلفة ، أي التركيز على
الجانب الذي يحدث فرقا حقيقيا في الأداء والنتائج في العمل، بدلا من إرهاق النفس
في تفاصيل ثانوية، لا تسمن ولا تغني من جوع.
إن إيجابية العمل بذكاء التي يمكن أن نلمسها بالنسبة للأفراد تكمن في زيادة
الإنتاجية (أكثر إنجاز بوقت أقل)، وتحسين جودة المنتجات بفضل التفكير الإبداعي،
إضافة إلى زيادة مستوى رضا الموظفين (تمكين وظيفي)، والعملاء (جودة أعلى وسعر أقل)،
مما ينعكس إيجابا على نمو المنظمة وتطورها لاحقا، عبر زيادة الحصة السوقية في بيئة
منافسة.
عند الحديث عن العمل بذكاء، لا يمكن اهمال أهمية استمرار التعلم للأفراد
والمنظمات، فالمنظمات التي تحتضن بيئة عمل تشجع على التعلم، وتخصص موزانات سنوية
لذلك، وتدار المعرفة (Knowledge Management) فيها بشكل علمي، تساهم في ارتفاع منحى التعلم لدى الأفراد (Learning
Curve)، أي أن المنظمات المتعلمة (Learning
Organization) هي التي تتبنى التعلم المستمر كجزء أساسي
من ثقافتها، بحيث يسعى جميع أفرادها لتطوير أنفسهم، وتشارك المعرفة فيما بينهم،
وتتكيف بسرعة مع التغيرات في البيئة الداخلية والخارجية، أي أنها منظمة تجعل من
التعلم، والإبداع، وتوزيع المعرفة وسيلة للبقاء والتطور والنمو المستدام، وتكون أيضا
قادرة على تخطي التحديات التنافسية، وتجاوز العقبات التي يمكن أن تواجهها في السوق،
ذلك أن ثقافة التعلم السائدة على مستوى المنظمة والأفراد توفر قوة مرنة دافعة نحو
الإستعداد والتكيف والتبني لكل ما هو جديد، سواء كان قائما أو قادما.
تتضح العلاقة بين العمل بذكاء
والمنظمة المتعلمة بجلاء؛ إذ يعد العمل بذكاء مكونا أساسيا من ثقافة المنظمة
المتعلمة، فالأفراد الذين يتبنون هذا النهج من خلال التخطيط السليم، وتوظيف
التكنولوجيا، وابتكار الحلول، إنما يجسدون جوهر المنظمة المتعلمة، وفي المقابل تعمل
المنظمة المتعلمة على تهيئة البيئة الداعمة لهم عبر توفير التدريب والأدوات
والمرونة اللازمة لترسيخ هذا الأسلوب في العمل. كما أن منحنى التعلم يوضح العلاقة
بين الممارسة ومستوى الأداء أو الكفاءة، فكلما كرر الأفراد مهمة معينة، ارتفعت
سرعة إنجازهم وجودة مخرجاتهم بمرور الوقت، هذا يعني أن التعلم ليس لحظة واحدة، بل
عملية تراكمية تنعكس إيجابيا على الإنتاجية وتحسين الجودة.
والسؤال
هنا، كيف يمكن للشركات الناشئة الإستفادة من العلاقة بين العمل بذكاء والمنظمة
المتعلمة ومنحنى التعلم؟، تعتبر الشركات الناشئة كيانات تجارية حديثة التأسيس،
تهدف إلى تقديم منتجات أو خدمات مبتكرة، غالبا في مجالات التكنولوجيا أو الحلول
الرقمية، وتعمل هذه الشركات في بيئة تتميز بالمخاطر العالية والتغير السريع،
وتعتمد على موارد محدودة، من هنا، يصبح الجمع بين العمل بذكاء، والمنظمة المتعلمة،
ومنحنى التعلم ليس مجرد ميزة، بل شرطا للبقاء، وتعتبر معظم الشركات الناشئة في
الأردن موجهة نحو مجالات التكنولوجيا المالية (Fintech)، والتجارة الإلكترونية (E-commerce)، والتعليم الرقمي (EdTech)، والصحة الرقمية (HealthTech)، يتم تمويلها عبر رؤوس
الأموال الصغيرة أو برامج الدعم الحكومية أو التمويل الجماعي، لذلك تحتاج هذه
الشركات إلى العمل بذكاء وتوظيف مواردها بشكل حكيم، حيث تسعى إلى حل مشكلات محلية
مثل الدفع الإلكتروني أو الخدمات اللوجستية، وفي نفس الوقت، تضع في اعتبارها
التوسع في الأسواق الإقليمية والدولية، وبالنظر إلى البيئة الديناميكية والمنافسة
الشديدة في السوق، فهي بحاجة إلى التكيف السريع مع التغيرات في السوق أو التشريعات
أو تفضيلات العملاء، ومن جانب آخر تعاني من صعوبة الحصول على رأس المال الكافي
للنمو السريع، كما أن السوق محلية صغيرة، وبحاجة للتوسع خارج الأردن بسرعة لتحقيق
استدامة الأعمال، كذلك وجود نقص في المهارات الرقمية المتقدمة، فبعض الشركات تواجه
تحديات في توظيف المطورين والمبرمجين المؤهلين، كما يعيق الإطار القانوني
والتنظيمي أحيانا من سرعة التأسيس والنمو.
العمل بذكاء يساعد الشركات الناشئة على تحديد الأولويات، فهي لا تملك
رفاهية إضاعة الموارد في تجارب طويلة، بل التركيز على منتج أو خدمة أساسية، بدلا
من التوسع المفرط، والإستفادة من أدوات التكنولوجيا المجانية أو منخفضة التكلفة،
وإقامة شراكات الذكية، من خلال التعاون مع أطراف خارجية بدلا من بناء كل شيء
داخليا ومن الصفر، أما الشركات الناشئة في سياق المنظمة المتعلمة، فيظهر من خلال التكيف مع السوق،
فإذا لم ينجح المنتج الأول، تعيد التوجه بسرعة إلى منتج آخر، ومشاركة المعرفة بين الفريق الصغير يؤدي
إلى تعميم الخبرات بسرعة ، كذلك اعتبار الأخطاء فرصا للتعلم، فالخطأ لا يعتبر فشلا
بل جزءا من التعلم الجماعي، لإنه إنعكاسا حقيقيا لل Growth Mindset.
لنضرب مثالا افتراضيا تطبيقيا
على العمل بذكاء والمنظمة المتعلمة ومنحنى التعلم، فلو افترضنا أن شركة ناشئة تعمل
في مجال (FenTech): ففي بداية المشروع، تعتمد الشركة على استراتيجية العمل بذكاء من
خلال تطوير المنتج الأدنى القابل للتطبيق (MVP)، حيث تركز على حل المشكلة
الأساسية للمستخدمين دون الحاجة إلى بناء منتج كامل في البداية، هذا الأسلوب يسمح
لها بتوفير الموارد والوقت، مع تقديم حل مبتكر وفعال بأقل تكلفة، وجمع بيانات
المستخدمين مبكرا، بما يساعدها على التكيف السريع مع احتياجات السوق. أما بالنسبة كونها
منظمة المتعلمة، فعندما تظهر الأخطاء التقنية مع أول 100 مستخدم، يبدأ الفريق بعقد
اجتماعات أسبوعية لمراجعة الأداء ومشاركة الخبرات، وهذا يساعد في خلق بيئة تعلم
مشتركة، حيث يمكن لجميع أعضاء الفريق التعلم من الأخطاء وتحسين المنتج بناء على
التجارب العملية، ومن خلال هذه الاجتماعات المنتظمة وتبادل المعرفة، تنجح الشركة
في بناء ثقافة تعلم مستمر داخل المنظمة، مما يساهم في تحسين المنتج وزيادة فعاليته. أما منحنى
التعلم، فقد يتجلى في الطريقة التي تعلم بها الفريق من الأخطاء التقنية مع مرور
الوقت، وإدخال التحسينات تدريجيا، فقد يكون الأداء أقل كفاءة في البداية، لكنه يتحسن
تدريجيا مع تراكم الخبرة، مما يؤدي إلى نتائج ملموسة مثل زيادة عدد المستخدمين
وتقليل تكلفة العمليات، فالأخطاء الأولية لم تكن مجرد عقبات، بل يكون جزءا أساسيا
من منحنى التعلم الذي يمكن الشركة من تطوير حلول أفضل باستمرار، وبذلك، تتمكن الشركة
من الإستفادة من بيئة تعلم مشتركة، وتوظيف العمل بذكاء عبر MVP، ومتابعة منحنى التعلم لتحسين
الأداء، مما يساعدها على تحقيق نتائج إيجابية بسرعة وفعالية، وتعزيز فرص نجاحها في
سوق تنافسية.
في النهاية، يمكن تقديم مجموعة
من النصائح العملية للشركات الناشئة للإستفادة من تجارب الآخرين وتطبيق أفضل
الممارسات في نموذج الأعمال الذي تتبعه:
- ينبغي على الشركات الناشئة تبني العمل بذكاء منذ البداية، ويعني ذلك
التركيز على تطوير المنتج الأدنى القابل للتطبيق (MVP) بدلا من محاولة بناء منتج كامل
ومعقد منذ البداية، كما يشمل الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، سواء كانت الوقت
أو المال أو الكفاءات البشرية، مع الإستفادة من التكنولوجيا والأدوات الرقمية لتسهيل
العمليات، ومن المهم أيضا تحديد الأولويات بوضوح، أي التركيز على ما يحقق قيمة
فعلية للمستخدمين ويعزز نمو الشركة.
- يجب العمل على بناء ثقافة المنظمة المتعلمة داخل الفريق، ويمكن تحقيق ذلك
من خلال تشجيع مشاركة وتوزيع المعرفة والخبرات بانتظام، سواء عبر اجتماعات دورية
أو منصات داخلية، واعتبار الأخطاء فرصة للتعلم، كما ينبغي دمج هذه التجارب
المكتسبة في تطوير المنتجات والعمليات، والإستثمار في تدريب الأفراد وتحفيزهم على
التعلم المستمر، سواء عبر الدورات الداخلية أو الموارد التعليمية الخارجية، كذلك يعد
استخدام أدوات توثيق المعرفة، مثل قواعد البيانات ومستندات التجارب وأدلة التشغيل من
العوامل المهمة لتعزيز التعلم الجماعي داخل المنظمة.
- على الشركات الناشئة توظيف منحنى التعلم بشكل فعال، ويجب توقع أن تكون
البدايات أقل كفاءة، واعتبار الأخطاء جزءا طبيعيا من عملية النمو، كما يجب مراقبة
الأداء بشكل دوري لتحديد مجالات التحسين، ثم تطبيق التعديلات تدريجياً، ويساعد
تكرار التجارب العملية على تسريع التعلم وتحقيق تحسين تدريجي في جودة المنتجات
والخدمات، ويمكن استغلال البيانات والتجارب المبكرة لفهم احتياجات المستخدمين بشكل
أفضل وتحسين العمليات بسرعة.
- من الضروري تحقيق التكامل بين المفاهيم الثلاثة، فيمكن جعل العمل بذكاء
إطارا يوميا لإدارة الوقت والموارد، واستخدام ثقافة المنظمة المتعلمة لضمان تحويل
كل تجربة إلى معرفة جماعية مفيدة، واعتماد منحنى التعلم كمؤشر لتقييم التقدم
والتحسين المستمر وتقليل المخاطر في اتخاذ القرارات.
الشركات الناشئة التي تدمج هذه
العناصر الثلاثة تصبح أكثر مرونة وابتكارا، وأسرع تكيفا مع متغيرات السوق،
والنتيجة الحتمية لذلك هي تحسين المنتجات، وتقليل التكاليف، وزيادة مستوى رضا
العملاء، وتحقيق نمو مستدام حتى في بيئة تنافسية شديدة.