"منع ضم الضفة" خدعة لتمرير التطبيع
لميس اندوني
الخلاف العلني بين إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ورئيس
الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حقيقي. ولكن؛ يجب فهم جوهره حتى لا تسوقنا
الأوهام... باختصار، هو خلاف أولويات؛ أولوية ترامب والمؤسسة الأميركية توسيع
الاتفاقيات الإبراهيمية بين إسرائيل والدول العربية، وبالأخص السعودية، فيما ترى
تل أبيب وجوب تسريع تكملة المشروع الاستيطاني الصهيوني، بدءاً بضم أراض واسعة في
الضفة الغربية.
ويحمل هذا الخلاف في طياته
خلافاً آخر مساوياً في الأهمية؛ ففيما تحاول إسرائيل وقف الحديث عن إقامة دولة
فلسطينية، فإن الإدارة الأميركية، وإنْ رفضت الاعتراف الدولي المشروط بدولة
فلسطينية غير معروفة الحدود ومنزوعة السلاح، يهمّها إبقاء الأفق مفتوحاً أمام
إقامتها باعتبارها مطلباً عربياً تشدّد عليه السعودية للدخول في الاتفاقيات
الإبراهيمية، أي إنها تريد على الأقل الوهم.
إذ لم تثبت أميركا يوماً
أنها معنية بدولة فلسطينية، لكن ترامب لمّح في خطته بالبند التاسع عشر، وبعد
استيفاء خطوات وشروط، بإبقاء الباب مفتوحاً لفكرة إقامة دولة فلسطينية.
لذا، احتمال قبول أميركا بإنشاء دولة فلسطينية وهم
أو طُعم على ترامب الحفاظ عليه، وضم الضفة الغربية ينسف ذلك كله.
وعليه؛ ترامب، الذي تعودنا منه الكذب، صادق في
التزامه بوعده الدول العربية بمنع إسرائيل من ضم المستوطنات وأراضٍ في الضفة
الغربية، لكنه يتحدّث عن منع وقتيّ، حتى لا يعرقل مسار توسيع الاتفاقيات
الإبراهيمية، ولا يتحدّث عن موقف ثابت واستراتيجي. أما نتنياهو وحكومته فيريدون أن
يفرضوا على العالم قبول أن الضفة الغربية جزءٌ من إسرائيل، وآن الأوان أن يقبل
العالم هذا، فلا مكان لقرارات أممية ولا قانون دولي.
يريد الرجلان العالم العربي
تحت الهيمنة الإسرائيلية، لكن الفرق أن الإدارة الأميركية توصّلت إلى استنتاج أن
الدول العربية لا تثق بإسرائيل، وترى في تعميق التطبيع الرسمي، الذي يُراد له أن
يكون شعبيّاً، خطراً عليها، خاصة بعد فصل حرب الإبادة في غزّة والاعتداءات المستمرّة
والسيطرة على أراضٍ في سورية ولبنان والعدوان على قطر، أي إن ضم أراضي الضفة
الغربية قد ينسف توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية، التي تتجاوز تطبيع مفهوم الاحتلال
وواقعه إلى ترسيم تحالف عسكري أمني بقيادة إسرائيل وقبول عربي بسيادة إسرائيل على
كل أرض فلسطين التاريخية.
أما نتنياهو فلا يهتم
بقبول عربي، بل يؤمن أنه لا يمكن إلا فرض أهداف إسرائيل بالقوة، فليس هناك ردع
عربي او إرادة عربية تحول دون أهدافه، عدا أن صراعه للبقاء في السلطة يستوجب فرض
عضلات الكيان في المنطقة وعدم التراجع، ليكمل ما يراها هزيمة عربية، تجعل العرب
يتسابقون على الدخول في اتفاقيات مع إسرائيل. فمن وجهة نظر إسرائيلية ومراكز أبحاث
صهيونية، لم تعطّل حرب الإبادة الاتفاقيات العربية الإسرائيلية، ولم تجمّد أي من
الدول العربية المطبّعة أيّ اتفاقية في مجال التجارة والطاقة مع إسرائيل، بل توسّع
التعاون مع دول الاتفاقيات الإبراهيمية، خاصة الإمارات، مع إسرائيل وهذا ما تحسبه
بدقة دوائر إسرائيلية.
استنتجت إسرائيل أن أي دولة عربية تقيم علاقات
معها لم تهدّد بتجميد هذه العلاقات واتفاقيات التطبيع، بالرغم من حرب الإبادة
والتوغل في الأراضي السورية واللبنانية، وعمليات الاستيطان والتدمير في الضفة
الغربية. ولكن الدوائر الأميركية الصهيونية، والمؤيدة إسرائيل، ما فتئت تحذّر
وتنصح إدارة ترامب ومساعديه من أن تهوّر نتنياهو سيفسد كل شيء، إذ من الصعب جدّاً
على القادة العرب المضي في تعميق التطبيع، فيما يشعرون بخطر إسرائيل على الاستقرار
في بلادهم، فهم لا يثقون بأن الاتفاقيات ستكبح جماح نتنياهو، بل تأخُذ بجدّية
تهديدات التوسع في سورية ولبنان والأردن، فقد بدأ هذا بالفعل.
صحيحٌ أن الحكومات العربية استطاعت لجم درجة التعاطف والتضامن مع الفلسطينيين
والمعارضة الشعبية ضد العلاقات معها، لكنها تدرك الغضب الشعبي الكامن تحت السطح،
خاصة إذا استمرّت إسرائيل في اعتداءاتها وعدوانها. وعليه؛ ضغطت الدوائر المؤيدة
لإسرائيل في واشنطن باتجاه منع (أو بالأحرى "تأجيل") ضم إسرائيل أراضيَ
في الضفة الغربية.
واضحٌ أن ترامب اقتنع بوجهة
النظر هذه، خصوصاً أن قادة الدول العربية الذين اجتمعوا معه أوصلوا إليه الرسالة
بوضوح، لذا أعطى ترامب وعده بعدم السماح بضم الضفة الغربية.
يدلّ موقف الدول العربية الرافض ضم إسرائيل الضفة
الغربية، وتجاوب ترامب معهم، وإن كان تكتيكياً، على أن الموقف العربي يستطيع
التأثير على واشنطن، ففي النهاية لن ترسل أميركا جيوشها إلى كل بلد عربي أو حتى
تقطع المساعدات عن جميع هذه الدول، فهي في حاجة إلى تعاون الأخيرة لتحقيق أهدافها
في المنطقة التي يعدّ الاستقرار فيها مهماً للولايات المتحدة، إلا اذا كانت تستفيد
من الفوضى، وفي هذه الحالة تجذُّر الغضب الشعبي ضد إسرائيل سببٌ لعدم الاستقرار
ولن يفيد واشنطن.
وفي الوقت نفسه، يكشف تجاوب ترامب مع مخاوف قادة
الدول العربية، وبالأخص قطر والأردن ومصر، أنه كان في استطاعتها فعل المزيد، لكنها
لم تفعل، وهذا موضوع آخر.
ما يهمّنا هنا أن ترامب فهم أن اتفاق وقف إطلاق
النار ومنع إسرائيل من المباشرة في ضم أراضٍ في الضفة شرطان مهمّان لمتابعة عملية
التطبيع الإبراهيمية، التي يُراد منها إدماج إسرائيل في المنطقة، واعتبارها دولة
"أصيلة" فيها، وليست كياناً استيطانيّاً، يعيش وينمو على اقتلاع الشعب
الأصلي من الأرض. وهذا هدفٌ لطالما حلم به الإسرائيليون، لكن نتنياهو يبدو أنه لم
يعد يهتم، إذ يوهم نفسه بالانتصار التاريخي الساحق. ولا يقتصر الحلم بهذا الانتصار
على نتنياهو، بل ينسحب أيضاً على ترامب. وبالعكس، يتفوّق الأخير عليه بهوس العظمة،
لكنه بدأ يرى أن إسرائيل تعطّل خططه وأحلامه، خصوصاً أنه يرى أنه يحمي إسرائيل
ومصالحها، وفي ذلك كثيرٌ من الصحة، بل إن صهاينةً كثيرين، محللين وباحثين، يريدون
من ترامب إنقاذ إسرائيل من نتنياهو.
... غضب ترامب
حقيقي، وهو يراقب كيف يقوّض نتنياهو ووزراؤه المتطرفون مصالح إسرائيل وأميركا
معاً، فنرى ترامب ومساعديه، وبدعم مستشارين غير رسميين من كرادلة معهد واشنطن
لدراسات الشرق الأدنى، معقل الصهيونية الأهم في واشنطن، مصمّمين على عدم السماح
لنتنياهو بإيذاء أميركا وإسرائيل معاً بأحلامه.
لا بد من الاستفادة من هذا الخلاف، بشرط الوعي
التام أنه لن يمسّ علاقة واشنطن الاستراتيجية بإسرائيل، فمطلوب من الدول العربية،
رغم ضعف إرادتها، الحد الأدنى من الموقف، أي التمسّك برفض الضم الإسرائيلي أراضي
الضفة الغربية وأي أراض من غزّة، وإعادة رفع الصوت على الأقل برفض السيادة
الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة والتمسّك بالحقوق الوطنية الفلسطينية،
بالالتزام بالخطاب الحقوقي سلاحاً سلمياً لمنع ضم الضفة الغربية عدم الاعتراف بضم
القدس الشرقية.
هذا سلاح يصبح فاعلاً إذا
حرّكت الدول دعوى ضد إسرائيل والمستوطنات بوصفه خرقاً للمواثيق الدولية، هذا إذا
أرادت الدول العربية التقاط الفرصة ليس للدفاع عن فلسطين، بل لحماية كياناتها، أو
على الأقل أنظمتها، قبل فوات الأوان عليهم وعلينا.
العربي الجديد

























