الشخصية الانطوائية


د. محمد علي النجار
يُعَدُّ العالم النفساني السويسري ( كارل جوستاف يونج CARL GUSTAV YANG ) صاحب نظرية الأنماط ، أولَ من وضع مفهوم الشخصية الانطوائية ، و هي الشخصية التي يسيطر عليها السلوك الانطوائي ، ومن هذا السلوك اكتسبت التسمية . فما المقصود بالانطواء ؟ .
الانطواء لغويًا:
الانطواء في اللغة : مصدر الفعل انطوى - كما في لسان العرب - والنسب إلى المصدر انطوائيّ "وحكى سيبويه تطوّى انطواء وأنشد : ( وقد تطويت انطواء الحضب ) والحضب ضرب من الحيات ".
و يقال للحية وما يشبهها: ؟انطوى ينطوي انطواء فهو منطوٍ ..وقال الشاعر :
وصاحب قد طوى كشحا فقلت له : إن انطواءك هذا عنك يطويني "
وفي المعجم الوسيط : "انطوى : اطّوى ، والحية وغيرها : التف بعضها حول بعض". وفي المنجد : " تطوّت الحية : استدارت و انقبضت"
مما سبق نجد كلمة الانطواء تدل على الانسحاب ، والانزواء والابتعاد عن الآخرين والتقوقع والميل إلى العزلة والوحدة ، وهذه المعاني اللغوية تنسجم مع التعريف الاصطلاحي ، أو مع مظاهر الانطواء التي ذكرها علماء النفس .
الانطواء اصطلاحًا :
أما في علم النفس فالانطواء : ” نمط في الشخصية يميل بالفرد إلى العزوف عن الحياة الاجتماعية ، والابتعاد عن الآخرين ، وضعف صلاته بهم ، وقلة اهتمامه بمشاكلهم ، وعدم الاكتراث بمشاركتهم أنشطتهم ، فالمنطوي يجد لذة في العزلة والانكفاء على ذاته ، والتمركز حولها ، وعدم إقامة علاقات مع الآخرين ، ونمط الانطواء هذا عكس الانبساط" (معجم علم النفس والتحليل النفسي، ص73)
ملامح الشخصية الانطوائية:
وللشخصية الانطوائية ملامح وصفات ، وقد وازن كثير من العلماء بين المنبسط والمنطوي ، بشكل يعطي صورة واضحة عن الشخصية الانطوائية ، ومنهم العالم السويسري المعروف (يونج) ، ويرى هانز أيزنك أن المنطوي الخالص "هادئ ومترو ومتأمل ومغرم بالكتب أكثر من غيره من الناس ، ومحافظ ومتباعد إلا بالنسبة لأصدقائه المقربين ، وهو يميل إلى التخطيط مقدمًا ، أي إنه ينظر قبل أن يخطو أي خطوة ، ويتشكك في التصرف المندفع والسريع ، ولا يحب الاستشارة ، ويأخذ شؤون الحياة اليومية بالجدية المناسبة ، ويحب أسلوب الحياة الذي حَسُنَ تنظيمه ، ويُخضع مشاعره للضبط الدقيق ، ويندر أن يسلك بأسلوب عدواني ، ولا ينفعل بسهولة ، ويُعتمد عليه ويميل إلى التشاؤم ، ويعطي أهمية كبيرة للمعايير الأخلاقية "
وفي حقيقة الأمر فإن الصفات التي أضفاها (أيزنك) على المنطوي ، صفات جيدة ولا تنم عن مرض أو سلوك يحتاج إلى تعديل إلا في أضيق الحدود ، كقوله : متباعد ويميل إلى التشاؤم ،أما اتزانه وتفكيره وحيويته وتنظيمه وانضباطه وأخلاقه فهي صفات محل احترام و تقدير لصاحبها، إلا أن الطبيب النفسي السويسري (هرمان رورشاخ RORSCHACH) يصف الانطوائي ، ثم يسلط الضوء على نقطة الضعف في هذه الشخصية ، فهو يرى أن هذا النمط المنطوي يتميز بالإبداع والذكاء المتميز ، وبالصفات الفردية ، والانفعال الثابت، وهي صفات جيدة ، لكن مما يتميز به في الوقت ذاته " صعوبة الاتصال بالعالم الخارجي المادي والاجتماعي ، وبالتالي فهو أقل قدرة على التكيف مع الواقع " ، وهذا الذي جاء به (رورشاخ) ليس جديدًا ، فالانطباع السائد عن سلوك هذه الشخصية الانطوائية ـ بالإضافة إلى السلوك الإيجابي فيها ـ أن صاحبها كتوم ، خجول بطئ في اتخاذ القرارات ، عادة ما يكون حالما ، يواجه صعوبات في التكيف مع الظروف الاجتماعية ، والتعبير عن عواطفه، وهو متردد في اتخاذ القرارات ، كذلك هو عديم الاكتراث والمبالاة ، فاتر بليد بارد ، سيئ الظن لا يثق بالآخرين ، وهو خامل واهي الهمة ، كئيب تبدو عليه الحيرة والتردد .. إلى غير ذلك من صفات تكاد تبدد الإيجابيات التي سبق أن أشرنا إليها .
لقد حاول (يونج) أن يحيط من خلال نظرية (الانبساط - الانطواء) بجميع الناس ، إذ إنه انطلاقا من النموذجين اللذين ذكرهما توصل إلى أربعة ضروب من الانطواء ، وأربعة أخرى من الانبساط ، وحاول أن يحشر جميع الشخصيات في الصور الثمانية للانبساط والانطواء ، وكان (يونج) قد بني ذلك على وظائف أربعة هي التفكير ، والوجدان ، والإحساس ، والحدس ، فاندرج بذلك تحت إطار الشخصية الانطوائية :
المنطوي المفكر: و هو الذي يشغل نفسه بالنظريات ، وتطبيقها في سلوكه الشخصي ، ويتتبع أفكاره متوجها إلى الداخل بدلا من توجهه إلى الخارج .
المنطوي العاطفي: و هو الذي يهتم بتحقيق الانسجام الداخلي بدون أن يراعي ما قد يكون للعوامل الخارجية من أثر .
المنطوي الحسي: وهذا النمط يضم العمليين من الناس ، إدراكهم للواقع يتسم بغرابة جزئية لا تبدو للآخرين بسهولة .
المنطوي الحدسي: هذا النمط ملتزم برؤية داخلية ، وأحكامه مستندة إلى ضروب من التخمين ، أو قل الإلهام أحيانًا ، وقد يكون الشخص هنا مبتكرًا ، أو صاحب فكرة غريبة يؤمن بها ، ويحاول جاهدا تحقيقها .
و تأكيدًا لما سبق "يعتقد (يونج) أن كل شخص لا بد أن ينتمي إلى أحد النماذج بطريقة صريحة ، وأن الفوارق التي تميز الأفراد وراثية فطرية " وهذا يوحي بأن الناس لا بد واقعون في إحدى الفئتين ( الانطواء والانبساط ) الأمر الذي رفضه بعض علماء النفس فيما بعد ، حيث رأوا أن نظريات الأنماط تقوم على تصنيف حاد للأفراد ، وإذا أخذنا في الاعتبار أن النمطين المنطوي والمنبسط يمثلان قطبين متضادين ؛ أحدهما يقبع في مساحة تضم أنماط الانطواء في أقصى اليمن ، والآخر يقبع في مساحة تضم أنماط الانبساط أقصى الشمال ، فإن هناك مساحة ما بين النمطين ، تظل خالية من أي نمط . وفي الحقيقة فإن المنطقة الوسطي المتدرجة بين القطبين الانبساطي والانطوائي ، يقع فيها غالبية الناس ، وأما الطرفين ففيهما يقبع القلة من الناس .
وبعد .. فإن المرء يقف حائرًا و مترددا أمام مظاهر الانطواء ، وصفات الانطوائي ، ذلك بسبب الكم غير القليل من هذه المظاهر والصفات التي أضفاها علماء النفس ، ثم الدارسون والباحثون على الشخص المنطوي ، بحيث يصعب الحكم على هذه الشخصية سلبًا أو إيجابًا ، لأننا نجد خلطًا يصل حد التناقض أحيانًا بين هذه الصفات وتلك عند باحث وآخر ، فالمنطوي بما عرفنا من صفاته هو أيضًا " الذي نجده عادة ميالاً للدعة حزينًا لأتفه الأسباب ، يتقزز من أي منظر لا يناسبه ، يخضع لغيره ، أو على الأقل لا يميل إلى حب السيطرة …ميالاً للراحة والاستجمام ، غير شغوف بأساليب النشاط القوي ، لا الفكري ، ولا الجسماني .. ويخاف من تحمل المسؤولية"
و هذه الصفات تصطدم مع صفات أخرى ذكرها آخرون مثل هانز أيزنك ، ورورشاخ وغيرهما .
و أحسب أنني أستطيع القول: إن الشخصية الانطوائية الطبيعية لا تشكل ظاهرة خطيرة تحتاج إلى علاج ، بل الخطير في الأمر ، السلوك الانطوائي الذي يؤثر سلبًا على مجرى حياة الفرد ، لذا فإننا عندما نتحدث عن الطفل الانطوائي ، إنما نتناول السلوك غير السوي عند الطفل . ذلك السلوك الذي يقف عائقًا دون تكيفه مع نفسه ، ومع بيئته المحيطة به وبخاصة في محيط المدرسة ، و بمعنى آخر خروجه عن المألوف ، فالأصل هو توحده في الجماعة ، إذ يُلاحظ أن التلميذ في مدرسته وفصله يسعى دائمًا نحو التوحد ، وتقوية الجماعة ، وهذا هو الأصل ، أما في حالة التلميذ الانطوائي ، فإننا نجد عكس ذلك تمامًا ، إذ ينفر من الجماعة وما يترتب عليها من التزامات ، فهو عاجز عن التوصل إلى أنماط معينة من العلاقات مع الآخرين ، والانخراط في النشاطات الاجتماعية ، وهنا يمكن أن نقول: إن التلميذ غير قادر على التكيف ، ومن هذه النقطة تبدأ مشكلة التلميذ الانطوائي ، ومن النقطة ذاتها يبدأ البحث عن روافد الشخصية الانطوائية ، وتحديد السلوك الذي يقوده إليها ، وكيف ومتى نحكم على هذا التلميذ أو ذاك ، بأنه يحتاج إلى العون والمساعدة ليتمكن من التكيف مع نفسه و بيئته ؟.