وقف اطلاق النار بغزة لن يصمد
عالم السياسة الاميركي ميرشايمر: الاسرائيليون باغلبيتهم وليس نتنياهو فقط مع التطهير العرقي للفلسطينيين


رأى أستاذ العلوم السياسية
والعلاقات الدولية في جامعة شيكاغو، وهو من ابرز
المنظرين الواقعيين في العلاقات الدولية جون ميرشايمر أن "احتمال التوصّل إلى اتفاق سلام بين اسرائيل
والفلسطينيين (بعد اتفاق ترامب) يساوي الصفر، وأن فرص استمرار وقف إطلاق النار
ضعيفة للغاية".
واوضح ميرشايمر، وهو واحد من أكثر الأصوات
النقدية نفوذًا في الفكر الإستراتيجي الأمريكي، ان الإسرائيليين "مصممون على تدمير حركة حماس،
والأخطر من ذلك أنهم يسعون إلى تطهير الفلسطينيين عرقيًا من قطاع غزة — وهذا هو
هدفهم الأساسي. لم يتمكنوا من هزيمة حماس بعد، ولن ينجحوا في نزع سلاحها أو القضاء
عليها من خلال هذا الاتفاق، فهذا ببساطة لن يحدث".
كما
راى، في مقابلة أجراها معه الصحفي البريطاني بيريس مورغن،
انه "وفوق ذلك، لن تنسحب إسرائيل كليًا من غزة ما دامت حماس قائمة.
وبالنظر إلى هذا الواقع، وإلى تصميم نتنياهو ومن حوله على تهجير الفلسطينيين من
القطاع، فإن المسألة — في تقديري — مسألة وقت فقط قبل انهيار وقف إطلاق النار
وعودة القتال من جديد. وآمل أن أكون مخطئًا في ذلك".
وفيما
يلي نص الحوار:
المحاور: يبدو وكأننا نعيش يومًا تاريخيًا
اليوم. ما تقييمك لاتفاق وقف إطلاق النار (في غزة)، وللإفراج الدراماتيكي عن جميع
الرهائن الأحياء المتبقّين، وللمشاهد التي شهدناها في الكنيست بحضور الرئيس ترامب؟
ما رؤيتك لكل ما يحدث؟
جون ميرشايمر:
يمكنني أن أتناول عدة نقاط في هذا الصدد. أولًا، من الرائع أن نرى الإفراج
عن الرهائن، سواء من أجلهم أنفسهم أو من أجل عائلاتهم. ومن الرائع أيضًا أن نرى
إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، فكل ذلك يُعد تطورًا إيجابيًا في المجمل.
أما
فيما يتعلق بالرئيس ترامب وأدائه في الكنيست الإسرائيلي، فقد كان ذلك نموذجًا
كلاسيكيًا لترامب — عرض بطابع "ترامبي" أصيل. إنه واحد من أعظم صانعي
العروض في التاريخ الحديث، وقدرته على تحويل أي حدث إلى ما يشبه حفلة "روك
أند رول" أمر لا يمكن الاستهانة به. لا أعتقد أن هناك سياسيًا آخر، لا في
تاريخنا ولا على وجه الأرض اليوم، يمتلك القدرة على التفاعل مع الجمهور كما يفعل
هو.
لكن
إذا انتقلنا إلى جوهر المسألة، وهو الأهم، فإن اتفاق تبادل الأسرى ووقف إطلاق
النار المؤقت يُعتبر خطوة إلى الأمام بلا شك. ومع ذلك، هناك سؤالان حاسمان مطروحان
على الطاولة:
أولًا — هل سيتحوّل هذا إلى وقف دائم لإطلاق النار؟ وهل سيصمد أصلًا؟
وثانيًا — هل سينتج عن العملية برمتها اتفاق سلام حقيقي؟
وأنا
أعتقد أن احتمال التوصّل إلى اتفاق سلام يساوي الصفر، وأن فرص استمرار وقف إطلاق
النار ضعيفة للغاية.
فالإسرائيليون
مصممون على تدمير حركة حماس، والأخطر من ذلك أنهم يسعون إلى تطهير الفلسطينيين
عرقيًا من قطاع غزة — وهذا هو هدفهم الأساسي. لم يتمكنوا من هزيمة حماس بعد، ولن
ينجحوا في نزع سلاحها أو القضاء عليها من خلال هذا الاتفاق، فهذا ببساطة لن يحدث.
وفوق
ذلك، لن تنسحب إسرائيل كليًا من غزة ما دامت حماس قائمة. وبالنظر إلى هذا الواقع،
وإلى تصميم نتنياهو ومن حوله على تهجير الفلسطينيين من القطاع، فإن المسألة — في
تقديري — مسألة وقت فقط قبل انهيار وقف إطلاق النار وعودة القتال من جديد. وآمل أن
أكون مخطئًا في ذلك.
وللتذكير،
قبل أن يتولى الرئيس ترامب منصبه، أي في التاسع عشر من كانون الثاني/ يناير، تم
التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، واستمر حتى الثامن عشر من مارس حين قامت
إسرائيل بخرقه. وخلال تلك الهدنة (من يناير إلى مارس 2025) أُفرج عن 33 أسيرًا
إسرائيليًا وخمسة أسرى تايلانديين. لدينا إذًا سابقة مماثلة. لكن الحقيقة أن تلك
الهدنة انهارت بعد صفقة التبادل السابقة، لتعود معها المجازر. وخوفي الكبير هو أن
المشهد نفسه سيتكرر هذه المرة.
المحاور: أكثر
ما كان يثير قلقي خلال الأشهر الماضية هو الخطاب المتصاعد الذي يصدر عن شخصيات مثل
سموتريتش وبن غفير داخل الحكومة الإسرائيلية — ذلك الجناح اليميني المتطرف الذي
بات يتحدث بصراحة فجة عن التطهير العرقي. كانوا يعبّرون بوضوح تام عن رؤيتهم
الجديدة للمهمة: طرد الفلسطينيين، "تطهير" غزة — بحسب تعبيرهم —
والاستيلاء على الأرض التي يعتقدون أنها حق ديني لهم.
لكن
المثير للاهتمام بالنسبة لي هو أنّه، إلى جانب مشاهد الإفراج عن الأسرى وعودة
الرهائن إلى بيوتهم، وخطاب ترامب في الكنيست وكل ما رافق ذلك، شاهدنا أيضًا آلاف
الفلسطينيين يعودون إلى أنقاض منازلهم في محاولة لبدء إعادة بناء حياتهم. وهذه
المشاهد لا تنسجم مع مخاوفي السابقة من أن إسرائيل كانت تخطط بالفعل لطردهم جميعًا
ومنعهم من العودة.
ألا
تُشعرك هذه الصور — صور الفلسطينيين الذين يُسمح لهم بالعودة إلى أرضهم — بشيء من
الأمل أو التشجيع؟
ميرشايمر: من
الصعب ألّا يشعر المرء بشيء من الارتياح لرؤية الفلسطينيين يعودون إلى بيوتهم —
إنّه مشهد يدفئ القلب حقًا، رغم أنّه محزن للغاية أن ترى ما آلت إليه منازلهم.
لكن السؤال الأهم، يا بيرس، هو: ما هو الحل السياسي هنا؟ هناك سؤالان كبيران
مطروحان. الأول: من سيتولى إدارة قطاع غزة؟ بمعنى آخر — هل ستكون هناك تقرير
مصير فلسطيني حقيقي؟ هل الفلسطينيون هم من سيديرون غزة؟ هذا هو السؤال الأول.
أما
الثاني فهو: ما الأفق السياسي؟ ما هي الغاية النهائية من كل هذا؟
وفيما يتعلق بالسؤال الأول، عن من سيحكم غزة الآن، فالإجابة — للأسف — هي ليس
الفلسطينيون. بل سيكون الأمر بيد الرئيس ترامب، ويبدو أيضًا أن توني بلير
وبعض الجيوش العربية في المنطقة سيتولون مهمة الأمن. لكن الفلسطينيين لن يكون لهم
تقرير مصير فعلي، ولن يديروا غزة بأنفسهم.
أما
على المدى البعيد، فالأمر أكثر خطورة: لن تكون هناك أي تسوية سياسية حقيقية، ولا
دولة فلسطينية، ولا حلّ دولتين. ببساطة — هذا الوضع سيستمر ويتكرر دون
نهاية.
المحاور:
أعني، يبدو أنك متشائم جدًا حيال ذلك، لكن آخرين ممن يشاركون بشكل مباشر في
المفاوضات يعتقدون أنّ من بين أهوال العامين الماضيين قد تنبثق فرصة حقيقية، بل
وإرادة جماعية صادقة من دول الجوار العربية والإسلامية — بما في ذلك تركيا ومصر
والإمارات وقطر والسعودية — لاستثمار هذه اللحظة للوصول أخيرًا إلى حل
الدولتين. فلماذا كل هذا التشاؤم من جانبك؟
ميرشايمر: رئيس
الحكومة بنيامين نتنياهو أوضح بشكل لا لبس فيه، وفي مناسبات لا تُحصى، أنّه لن
يكون هناك حلّ دولتين. وهذه ليست مجرد وجهة نظر شخصية له، بل موقف واسع الانتشار
داخل إسرائيل. وبعد كل ما حدث خلال العامين الماضيين، هل تعتقد أن أيّ إسرائيلي ما
زال مهتمًا بحل الدولتين؟ ربما يمكن عدّهم على أصابع اليد الواحدة. ببساطة، هذا لن
يحدث.
فالإسرائيليون
قد ضمّوا فعليًا قطاع غزة، وضمّوا فعليًا الضفة الغربية أيضًا. وهدفهم الرئيسي
الآن هو تطهير هذين المنطقتين عرقيًا من الفلسطينيين. إنّ فكرة "التطهير
العرقي" في إطار ما يُسمّى "إسرائيل الكبرى" متجذّرة في الصهيونية
منذ نشأتها. ولهذا شهدنا عمليات تطهير واسعة عام 1948، ثم عام 1967، والآن — بعد
حرب 2023 — نشهد المشهد ذاته من جديد. فالإسرائيليون ينظرون إلى الحروب الكبرى
كفرص لتنفيذ التطهير العرقي، وهذا بالضبط ما يسعون إلى فعله الآن.
المحاور:
الرئيس ترامب، الذي ربط سمعته وإرثه السياسي بهذه العملية باعتبارها سلامًا
دائمًا، صرّح بنفسه — خلال حديثه الليلة الماضية على متن طائرة "إير فورس
وان" — بأنّ ما يحدث الآن هو اللحظة الأهم في حياته. وأعتقد أنه مصمّم
بجدية على تحقيق سلام مستدام، وهو في الوقت نفسه العنصر المحوري في قدرة إسرائيل
على مواصلة حربها ضد حماس أو تنفيذ أي مشروع لتطهير الفلسطينيين عرقيًا. لقد أوضح
ترامب بصراحة أنه لا يمكن ضمّ الضفة الغربية، وأنّ على الفلسطينيين أن يُسمح لهم
بالعودة إلى ديارهم. ومن هذه الناحية، أشعر ببعض التفاؤل حيال ما يقوله.
ميرشايمر:
أولًا، أعتقد أنك تقلّل كثيرًا من مدى التزام الإسرائيليين العميق بسياسة التطهير
العرقي في كلٍّ من غزة والضفة الغربية. فالوضع اليوم هو أن عدد الفلسطينيين بات
يقارب عدد اليهود الإسرائيليين داخل ما يُعرف بـ"إسرائيل الكبرى"، وهذا
وضع غير مقبول بالنسبة لغالبية الإسرائيليين. لذلك فهم مصممون تمامًا على تنفيذ
التطهير العرقي في غزة أولًا، ثم في الضفة الغربية، والأدلة على ذلك دامغة وكثيرة.
أما
النقطة الثانية، فهي ما ذكرته عن الرئيس ترامب، الذي ترى أنه يعتبر هذه اللحظة
فرصةً لإثبات أنه رجل دولة قادر على تحقيق السلام في الشرق الأوسط. من حيث المبدأ،
يمكن أنه يودّ ذلك فعلًا، لكنني ألّفت كتابًا مع ستيف وولت حول اللوبي الإسرائيلي،
وليس لديّ أدنى شك في أنه إذا حاول ترامب أن يتشدد مع نتنياهو، فسيتدخل اللوبي
الإسرائيلي ليجبره على التراجع.
لا توجد أي إمكانية لأن يتخذ ترامب موقفًا صارمًا ضد نتنياهو في حال انتهك
الأخير وقف إطلاق النار — تذكّر أنه فعل ذلك في الثامن عشر من مارس، ولم يُبدِ
ترامب أي حزم حقيقي تجاهه.
إسرائيل
اليوم تعتمد اعتمادًا هائلًا على الولايات المتحدة. فعندما كنت أصغر سنًا، كانت
إسرائيل تتفاخر بقدرتها على تأمين نفسها بنفسها، ولم تكن ترغب في أن تكون في موقع
الاعتماد على أي دولة أخرى في مجال الدفاع. لكنها وصلت الآن إلى مرحلة من الارتهان
الكامل للولايات المتحدة، وهو أمر سيئ حتى من منظور إسرائيلي داخلي.
ومع
ذلك، تبقى الحقيقة أن الولايات المتحدة لن توقف دعمها العسكري والسياسي لإسرائيل —
هذا ببساطة لن يحدث. ولم يُظهر الرئيس ترامب يومًا أي إشارة إلى أنه قد يفعل
ذلك.
عندما نسمع ترامب يقول لنتنياهو: "إذا لم تقبل بحلّ الدولتين
فسأقطع عنك كل المساعدات" — عندها فقط سأعتذر وأقول إنني كنت
مخطئًا، وإنك كنت على صواب. لكن الواقع هو أنه لم يقترب حتى من قول شيء
كهذا، رغم أنني وأنت نتمنى لو يحدث ذلك فعلًا.
المحاور: ماذا
عن مقترح تولي توني بلير الاشراف على حكم غزة وأين ستتجه المراحل التالية من تنفيذ
خطة ترامب
ميرشايمر: أعتقد أن ترامب بدأ يتراجع عن فكرة
إشراك توني بلير في "مجلس السلام” — لا شك لدي في ذلك. لكن السؤال المحوري
الذي ينبغي طرحه هو: من سيحكم غزة من الآن فصاعدًا؟
إذا
كنت فلسطينيًا — سواء كنت من حماس أو لا — فأنت تريد أن يكون الفلسطينيون هم من
يقررون مصيرهم بأنفسهم، أليس كذلك؟ تريد أن تدير سياستك بنفسك. لكن إذا نظرت إلى
الترتيبات التي وضعها الرئيس ترامب، ستجد أن الفلسطينيين ليسوا أصحاب القرار في
شؤونهم. وفوق ذلك، قرر ترامب أنه في وقت لاحق، يمكن للسلطة الفلسطينية — بعد
أن "يعاد تأهيلها” — أن تتولى إدارة غزة. ومن وجهة نظر فلسطينية، لا يمكن إلا أن
تتساءل:
ما الذي يعنيه هذا؟
إنه
يعني أن الرئيس ترامب هو من سيقرر من يحكم غزة، وهذا أمر مرفوض تمامًا بالنسبة
للفلسطينيين. وهذه هي المشكلة الجوهرية في المشهد كله: لا أحد في الغرب —
وبالطبع ليس إسرائيل — مستعد لأن يسمح للفلسطينيين بتقرير مصيرهم أو بإقامة دولتهم
الخاصة في نهاية هذه العملية السياسية. وطالما أن هذا الحق غير مُعترف به،
فإن الصراع سيستمر بلا نهاية، خصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار من الذي يقود السفينة
السياسية في تل أبيب اليوم.
الآن،
إذا كنت مؤمنًا بحلّ الدولتين فستريد أن تكون السلطة الفلسطينية هي الجهة التي
تدير الأمور، ليس فقط في الضفة الغربية، بل أيضًا في غزة.
لكن عليك أن تفهم أن بنيامين نتنياهو أراد دائمًا بقاء حماس في الحكم في
غزة، لأن ذلك يُفشل عمليًا فكرة حلّ الدولتين. وقد أوضح لترامب أنه لا يريد أن
تتولى السلطة الفلسطينية إدارة غزة، لأن هذا قد يُمهّد لخطوة في اتجاه حلّ الدولتين
الذي يرفضه تمامًا. وهذه هي المعضلة الكبرى التي نواجهها: المشكلة ليست فقط
في نتنياهو كشخص، بل في الإسرائيليين أنفسهم الذين يعارض معظمهم حلّ الدولتين.
من
الشائع في الغرب الاعتقاد بأن نتنياهو هو أصل المشكلة، وأنه إذا أُزيح عن السلطة،
فسيصل إلى الحكم "إسرائيليون متنورون” وسيتحقق السلام. لكن هذا غير صحيح.
فنتنياهو يُنتخب مرة بعد أخرى لأن مواقفه تعبّر عن مواقف غالبية الإسرائيليين.
وأنا أؤمن بأن من يتولى الحكم في إسرائيل سيظل ملتزمًا بسياسة التطهير
العرقي في الضفة الغربية وغزة، لأن الهدف هو إقامة "إسرائيل الكبرى” التي يسكنها
اليهود وحدهم، بلا فلسطينيين.
-مقابلة أجراها الصحفي البريطاني بيريس مورغن مع جون ميرشايمر (John J. Mearsheimer) وهو أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة شيكاغو،
ويُعدّ أحد أبرز المنظّرين الواقعيين في العلاقات الدولية في العصر الحديث،
وواحدًا من أكثر الأصوات النقدية نفوذًا في الفكر الإستراتيجي الأمريكي.