الذكاء الاصطناعي بين توسيع المعرفة وخطر اغتيال العقل
	
د. طارق سامي خوري
		
لم يعد الذكاء
الاصطناعي موجة تقنية عابرة يمكن التعامل معها بخفّة؛ فهو اليوم جزء أصيل من أدوات
البحث الأكاديمي والتحليل المعرفي وصناعة المحتوى. وقد أحدث ثورة في كيفية وصول
الإنسان إلى المعلومات وتنظيمها، إلى درجة بات معها كثيرون ينظرون إليه بوصفه
عقلًا بديلًا، لا مساعدًا معرفيًا.
		
		
قبل أعوام قليلة فقط،
كان إعداد أي دراسة جامعية أو بحث علمي يتطلّب ساعات طويلة داخل المكتبات، وتقليب
مئات الصفحات بحثًا عن فكرةٍ أو معلومة. أما العثور على فقرة دقيقة في كتاب ضخم
فكان بحاجة إلى صبر وحظ واتصالات شخصية. ويزداد المشهد تعقيدًا عند الحاجة لتصحيح
اللغة العربية وتشكيل النصوص، وهي مهمة كانت تتطلب متخصصًا لا يتوفر بسهولة. كل
ذلك كان يعني وقتًا أطول وجهدًا أكبر.
		
		
وخلال إعداد رسالة
الدكتوراه، اضطررت للرجوع إلى خمسين مرجعًا على الأقل. استغرق ذلك نحو عامين من
القراءة والتحليل والتدوين، واستخراج الاقتباسات من بين مئات الصفحات. في المقابل،
يستطيع الباحث اليوم الوصول إلى المادة المرتبطة بعنوان بحثه خلال ساعات قليلة،
وبدرجة تنظيم أعلى وسرعة غير مسبوقة. لقد اختُصر الزمن، وبقي المعنى.
		
		
لكن من المهم إدراك أن
الذكاء الاصطناعي ليس خاليًا من الانحيازات. فالمعارف الرقمية تُبنى على قواعد
بيانات ضخمة تم جمعها من منصات مختلفة، تحمل خلفيات ثقافية ودينية وسياسية. وهنا
تظهر قاعدة قديمة تلخّص المشهد: "المنتصر هو من يكتب التاريخ.” وفي عصر البيانات
أصبح من يملك القدرة على تغذية الأنظمة وتوجيه خوارزمياتها قادرًا على التأثير في
المحتوى الذي تنتجه. لذلك لا يمكن التسليم بكل ما تُقدّمه هذه الأدوات دون تمحيص
نقدي.
		
		
التقارير البحثية
الحديثة — من مؤسسات كـ MITوHarvard Business Review — تؤكّد أن الذكاء الاصطناعي قادر على توفير ما
بين 30% إلى 60% من الوقت الذي يُخصص عادة للبحث الأولي، وأنه يرفع دقة التنظيم
بنسبة تتجاوز 40%. في المقابل، تحذّر اليونسكو من ظاهرة "الكسل المعرفي” (Digital Laziness)، إذ إن الاعتماد
الكامل على الإجابات الجاهزة يهدّد بتراجع القدرات الإدراكية لدى الأفراد، ويقلّل
من قدرتهم على التحليل النقدي والإبداعي.
		
		
إن الإبداع ليس مجرد
تركيب لغوي جميل. هو بصمة شخصية تستند إلى خبرة ووجدان وسياق. وهذا ما لا تستطيع
الآلة تكراره مهما بلغت من الذكاء. فالذكاء الاصطناعي يمكنه أن يجيب، لكنه لا
يستطيع أن يسأل السؤال الصحيح، ولا أن يدرك خلفية السائل، ولا أن يستوعب تجربة
الإنسان وقلقه وبصمته الخاصة. وهنا تكمن قيمة العقل البشري.
		
		
المشكلة لا تظهر حين
نستخدم الذكاء الاصطناعي، بل حين نختفي خلفه. حين نستسلم له كليًا، ونطالب الآلة
بأن تفكّر بدلًا منا، ونصوغ أفكارنا على قياسها. عندها نخسر هويتنا الفكرية،
وتنخفض قدرتنا التحليلية، ويتحوّل المنتج إلى نص "منسوخ” بلا طعم ولا نفس.
		
		
التكنولوجيا نعمة حين
نُحسن استخدامها، ونقمة حين تتحوّل إلى عكّاز دائم. هي تُعطي اللغة والأدوات
والمراجع، لكنها لا تُعطي العقل، ولا تهب الشخصية، ولا تصنع الإيمان بالقضية.
		
		
المستقبل لن يكون حكرًا
على من يرفض التقنية باسم الأصالة، ولا على من يذوب فيها باسم الراحة. بل سيكون
ملكًا لمن يجمع بين العقل البشري والأداة الرقمية دون أن يضحي باستقلاله الفكري أو
هويته المعرفية.
		
		
الذكاء الاصطناعي ليس
بديلًا عن الإنسان.
		
هو فقط مرآة تكشف
حضوره… أو غيابه.
		

























