تطوير الإعلام الأردني: من التأثير إلى الأثر الوطني الحقيقي
بقلم: م. نبيل إبراهيم حدّاد
مهندس
وكاتب في النمو الاقتصادي وتطوير الهندسة والصناعة والإدارة
المقدمة
الإعلام
ليس صوتًا هامشيًا في حياة الدول، بل هو عنصر فاعل في تشكيل طريقة تفكير الناس،
وتحديد أولوياتهم، وطريقة تفاعلهم مع التحديات. وفي الأردن، يبرز هذا الدور بوضوح،
حيث تصل الإذاعات والنشرات الإلكترونية يوميًا إلى المواطنين في بيوتهم،
ومركباتهم، وأماكن عملهم ومصانعهم، مما يجعل الإعلام أحد أقوى أدوات التأثير في
الوعي العام.
وهذا
التأثير يفرض مسؤولية.
في
مرحلة يحتاج فيها الأردن إلى التركيز على تعزيز الاقتصاد الداخلي، ورفع الإنتاجية،
وبناء المهارات والمهنية، يصبح من الضروري أن يتطور دور الإعلام. ليس من النقد إلى
التطبيل، ولا من الاستقلالية إلى التقييد، بل من التعليق العابر إلى الإسهام
الهادف.
الإعلام
وتوجيه المسار الوطني
يلعب
الإعلام الأردني دورًا محوريًا في صياغة النقاشات الوطنية. وعندما يتركز الخطاب
الإعلامي على المشكلات فقط، دون تقديم سياق أو اتجاه، تتزايد حالة الإحباط دون أن
تتبلور رؤية للحل. نعم، يجب مناقشة التحديات بوضوح، لكن من الضروري أيضًا شرح أسبابها
وحدودها، وطرح مسارات عملية للتعامل معها.
التجارب
العالمية تُظهر أن الدول تنجح عندما تتمكن من توجيه السردية الوطنية نحو أهداف
مشتركة.
بعد
انتهاء الحرب في فيتنام، خرج البلد من حالة انقسام عميق بين الشمال والجنوب، إلى
جانب دمار واسع النطاق وانعدام الثقة الاجتماعية. ركزت القيادة الفيتنامية في
مرحلة ما بعد الحرب على توحيد المجتمع حول هدف وطني بسيط وواضح: إعادة بناء البلاد
وتحسين مستوى المعيشة.
اُستخدم
الإعلام والتعليم والخطاب العام بشكل منسق لترسيخ هذه الرسالة. لم يتم إنكار
الخلافات أو الاختلافات، لكن النقاش العام ركّز على الإنتاج، والانضباط، والتعلّم،
والعمل الجماعي. ومع مرور الوقت، تحوّل هذا التركيز المشترك من حالة انقسام
اجتماعي إلى زخم اقتصادي، ومهّد الطريق لنمو فيتنام الصناعي والتصدير في العقود
اللاحقة.
والدرس
هنا ليس سياسيًا، بل استراتيجيًا: السردية الوطنية المشتركة تساعد المجتمعات على
التقدم عندما تركز على العمل والنتائج بدل الانقسام.
تأثير
الإذاعة ومسؤوليتها
لا
تزال الإذاعة من أكثر المنصات الإعلامية تأثيرًا في الأردن. فكثير من المواطنين
يشكّلون آراءهم حول الإصلاح الاقتصادي، وفرص العمل، والتضخم، والإنفاق العام أثناء
استماعهم لبرامج إذاعية في طريقهم إلى العمل أو خلال ساعات الدوام. وفي بعض
الحالات، تُناقش قضايا اقتصادية وتنموية معقّدة بثقة عالية، ولكن دون عمق معرفي
كافٍ. فالنبرة الواثقة قد تبدو مقنعة، لكنها لا تعني بالضرورة صحة أو دقة الطرح.
السياسات
الاقتصادية، وأسواق العمل، والمالية العامة، والتخطيط التنموي مجالات متخصصة،
تتطلب شرحًا مبنيًا على معرفة وبيانات ومنهجية، لا آراء مرتجلة.
احترام
الحدود المهنية
الإعلام
القوي هو الذي يميّز بوضوح بين إدارة الحوار وتقديم الخبرة.
فمقدمو
البرامج لهم دور أساسي في إدارة النقاش، والتواصل مع الجمهور، وطرح الهواجس
العامة. لكن الشرح الفني والاستنتاجات المتخصصة يجب أن تُترك لأصحاب الاختصاص.
يمتلك
الأردن رصيدًا كبيرًا من الاقتصاديين، والمهندسين، والتربويين، والمتخصصين
الصناعيين، والمديرين ذوي الخبرة، سواء داخل المملكة أو خارجها. ويستفيد الإعلام
كثيرًا عندما تُستضاف هذه الكفاءات بشكل منتظم، لا موسمي.
فتح
المجال للخبراء ليس نقطة ضعف، بل دليل ثقة مهنية ونضج تحريري.
نهج
طوعي للسلوك الإعلامي
لا
حاجة إلى تشريعات جديدة. ما نحتاجه هو قدر أعلى من الانضباط المهني الذاتي. يمكن
للمؤسسات الإعلامية الأردنية الاستفادة من تبنّي نهج طوعي للسلوك الإعلامي يقوم
على:
• التمييز
الواضح بين الرأي والتحليل المتخصص
• تحديد
الموضوعات التي تتطلب رأيًا خبيرًا
• توضيح
طبيعة المحتوى للمستمع أو القارئ
• إعطاء
الأولوية للدقة والمصلحة العامة
مثل
هذه الممارسات الطوعية مطبّقة في بيئات إعلامية محترمة حول العالم، وأسهمت في رفع
المصداقية دون المساس بحرية التعبير.
الاستخدام
الاستراتيجي للمساحة الإعلامية
المساحة
الإعلامية محدودة وقيمة، وطريقة استخدامها تعكس الأولويات التحريرية. مع الإقرار
بأهمية التغطية الإقليمية والدولية، إلا أن الأردن اليوم بحاجة أكبر إلى نقاشات
معمّقة حول:
• سوق
العمل ومواءمة المهارات
• التعليم
المهني والتقني
• الصناعة،
والبنية التحتية، والطاقة، والمياه
• كفاءة
إدارة المشاريع والمؤسسات
كما أن
في الأردن عددًا كبيرًا من الكتّاب والخبراء المؤهلين الذين يفهمون الواقع الوطني
وحدوده وإمكاناته. فتح المجال أمام هذه الأصوات يعزّز نوعية النقاش العام.
الإعلام
والسلوك الاقتصادي
لا
يتحقق التقدم الاقتصادي عبر السياسات وحدها، بل يعتمد أيضًا على فهم المجتمع
وسلوكه. ويلعب الإعلام دورًا رئيسيًا في ذلك من خلال:
• شرح
الواقع الاقتصادي بهدوء ووضوح
• إبراز
قصص نجاح المشاريع والشركات المحلية
• تعزيز
ثقافة المهنية والتخطيط والمساءلة
• تشجيع
الشباب على مسارات مهنية تقنية وتطبيقية منتجة
وعندما
يفهم الناس كيف يعمل الاقتصاد، يصبح المجتمع أكثر تفاعلًا وقدرة على التكيّف
والتقدّم.
الخلاصة
الأردن
لا يحتاج إلى تقليص حرية الإعلام، بل إلى إعلام أكثر هدفية ووعيًا. الإعلام
البنّاء لا يتجاهل المشكلات؛ بل يشرحها.
ولا
يضخّم الإخفاق؛ بل يحلله. ولا يحتكر الرأي؛ بل يفتح المجال للمعرفة. المساحة
الإعلامية أصل وطني. وحسن استخدامها يعزز الثقة، ويدعم النمو، ويساعد الأردن على
المضي قدمًا بوضوح وثقة.














