الديبلوماسية المخاتلة: من حل الدولتين إلى مسار سياسي نحو حل غير محدد


د حيدر البستنجي
هناك صيغة لغوية جديدة
ومُربكة بدأت تتسلل إلى الخطاب الغربي - الأميركي والأوروبي - تتمثل في إحلال
تعبير "إيجاد مسار سياسي يؤدي إلى حل….." بدلًا من العبارة المعروفة بـ
"حل الدولتين". هذه الصيغة - رغم ظاهرها الإنشائي - تُخفي في طياتها
تحولًا مفاهيميًا عميقًا يعكس تراجعًا سياسيًا في الموقف الدولي، وتدشينًا محتملًا
لمرحلة ما بعد أوسلو، بكل ما تعنيه من طمس للمكتسبات الرمزية والقانونية التي
راكمها الفلسطينيون على مدار العقود الثلاثة الماضية.
هذا التغيير في اللغة هو نتاج إعادة تعريف
الخطاب السياسي بما يخدم أجندات إعادة التموضع الأميركي في المنطقة، ويمهّد
الأرضية لصياغة ما يمكن وصفه بـ "التحايل الاستراتيجي على جوهر القضية
الفلسطينية"، وذلك من خلال تحييد المفاهيم النهائية الواضحة مثل الدولة،
والسيادة، والحدود، لصالح عبارات مطاطية مفتوحة على التأويل، وتُدار بمنطق التعويم
لا الالتزام. مثل - إيجاد مسار سياسي يؤدي إلى حل ….- وهذا يستحضر ،
لا عن عبث، اللغة الدبلوماسية الغامضة التي كانت سائدة في نهاية الثمانينات وبدايات
التسعينات، وتحديدًا في عهد وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر، الذي هندس
خطابًا يقوم على "الإطار التفاوضي" لا "النتيجة السياسية" بما
يسمى نافذة الفرصة او ركوب قطار السلام دون معرفة المحطة النهائية. ما يعني عمليًا
إعادة تفعيل البوابة الإسرائيلية لتقرير شكل التسوية ومآلاتها، في غياب الاعتراف
الصريح بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف. والأخطر من ذلك أن هذه الصيغة
بدأت تجد طريقها إلى بعض الخطابات العربية، إما بفعل الاستتباع السياسي، أو نتيجة
القصور في الوعي التحليلي بمخاطر الانزياحات المفاهيمية في الخطاب الدبلوماسي، ومن
المتوقع أن يتكرر ترداد هذه المصطلحات مع اقتراب زيارة الرئيس الأميركي
دونالد ترامب للمنطقة، الذي يسعى إلى تتويج زيارته بإنجاز إقتصادي بغلاف
سياسي فارغ المضمون لكنه غني في الدعاية، يقدّمه كاختراق تاريخي دون أن يُلزم إسرائيل
بشيء يُذكر.
خطورة هذا المشهد تزداد
حين نربطه بالمبادرة المصرية، التي تسعى جاهدة - في إطار المساعي لوقف إطلاق النار
- إلى توفير مظلة مرنة للحل، قد تُستثمر لاحقًا من قِبل واشنطن كمنصة لتسوية سطحية
تُنهي الحرب دون أن تُنهي الاحتلال أو تُقرب الفلسطينيين من دولتهم، بل على العكس،
فإن ما يُسوَّق له اليوم هو "مكافأة تهدئة" تُمنح مقابل فتات اقتصادي،
تحت عنوان إعادة الإعمار، دون أي ضمانات سياسية حقيقية، فيما يبدو وكأنه نسخة
جديدة من "السلام الاقتصادي" الذي لطالما بشّر به اليمين الإسرائيلي.
على الجانب الاخر هناك
المقاربة الأوروبية الحذرة والمخاتلة عن الاعتراف بدولة فلسطينية، والتي تظل قاصرة
ولا تُعتد بها قانونيًا ولا سياسيًا ما لم تُقرن صراحة بتحديد حدود الدولة على
أساس الرابع من حزيران 1967، وبالقدس الشرقية عاصمة لها، وبقطاع غزة والضفة
الغربية كجغرافيا موحدة ذات سيادة كاملة، وما عدا ذلك، فهو إعادة إنتاج مموّهة
للنكبة بمفردات أكثر تهذيبًا، لكنها لا تقل خطرًا.
هناك حاجة ملحة
اكثر من اي وقت مضى إلى مواجهة هذا الانزلاق اللغوي والانحراف المفاهيمي
بأدوات نقدية يقظة وخطاب فلسطيني حازم، يُعيد ضبط البوصلة، ويرفض الانخراط في مسارات
غائمة تُدار بالضباب السياسي وتُنهي القضية دون أن تُعلن ذلك، إذ إن المطلوب اليوم
هو التصدي العلني لهذا التبديل المقصود للمصطلحات، فالخطر الأكبر لا يكمن في فشل
الحل، وإنما في تزييف معناه، وتسويقه كمسار سياسي مشروع، بينما هو في جوهره إعادة
ترتيب للخراب، لا بناء للسلام.