حين التقت التكنولوجيا بروح اقتصاد السوق الاجتماعي فنهضت الهند
وائل منسي
في نهاية تسعينيات القرن الماضي، كانت الهند
غارقة في دوامة الفقر والبطالة وضعف التعليم، فيما كان حلم معظم شبابها الهجرة إلى
الخارج بحثًا عن فرص أفضل.
لكن نقطة التحول جاءت على يد المهندس والعالم الدكتور باليغا،
الذي تولّى رئاسة مؤسسة تطوير الإلكترونيات الحكومية، وأطلق رؤية جذرية قلبت
المشهد الاقتصادي والتقني في البلاد. تساءل باليغا: لماذا نهاجر نحن إلى الشركات
العالمية، بينما يمكننا أن نجعلها هي من تأتي إلينا؟ ومن هنا وُلدت فكرة المدينة
الإلكترونية، التي أصبحت لاحقًا نواة الثورة الرقمية الهندية، ومثالًا عمليًا على
تطبيق مبادئ اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يوازن بين كفاءة السوق وعدالة التنمية.
وضع باليغا خطة استراتيجية بعيدة المدى لتأهيل مليون شاب هندي
في مجال تكنولوجيا المعلومات خلال عشر سنوات، وفق مقاربة تنموية تستند إلى تمكين
الأفراد وتعزيز العدالة في الوصول إلى الفرص. فقد جمع المشروع بين الاستثمار في
الرأسمال البشري وحرية السوق، مع دورٍ تنظيمي فاعل للدولة يضمن التوزيع العادل
للموارد ويحفّز المنافسة والابتكار.
وثقت الحكومة الهندية برؤيته ومنحته صلاحيات واسعة، وخصصت له
منطقة واسعة في جنوب مدينة بنغالور لتنفيذ المشروع، الذي بدأ بإنشاء سبعة معاهد
تكنولوجية متقدمة استقطبت في عامها الأول أكثر من 50 ألف طالب متفوق. حصل كل طالب
على حاسوب محمول وخدمة إنترنت مجانية، وتم ابتعاث 2400 طالب إلى جامعات مرموقة في
الولايات المتحدة وأوروبا لتلقي التدريب العملي المتقدم، ثم عادوا لتدريب زملائهم
ونقل المعرفة إلى الداخل، مما خلق دورة مستدامة من تبادل المعرفة والتقدم.
اعتمدت الخطة على مفهوم التحول الرقمي المُمكَّن بالبنية
التحتية الذكية، ضمن إطار من اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يدمج بين روح المبادرة
الفردية والمصلحة العامة. فالدولة هيأت الأرضية القانونية والمؤسساتية، والمجتمع
الأكاديمي وفّر الكفاءات، والقطاع الخاص قاد الابتكار والإنتاج. جرى بناء منظومة
رقمية متكاملة من شبكات الإنترنت عالية السرعة، ومراكز بيانات ضخمة، ونظم معلومات
تربط بين التعليم والصناعة والبحث العلمي. ولتشجيع الاستثمارات الأجنبية، قدّم
باليغا حوافز غير مسبوقة للشركات العالمية: منحها أراضي مجانًا، وإعفاءات ضريبية
مقابل تشغيل ألف مهندس هندي على الأقل في كل شركة.
تلك المقاربة تجسد التفاعل المثالي بين آليات السوق وحماية
المصلحة الاجتماعية، بحيث تحقق التنمية نمواً شاملاً لا يُقصي أحدًا.
نجحت الرؤية نجاحًا باهرًا؛ إذ استقطبت المدينة أكثر من 103
شركة تكنولوجية عالمية، مثل هيوليت باكارد، موتورولا، إنفوسيس، سيمنز، ساس، وساتيم.
ومع تراكم الخبرات، نشأت أكثر من 1500 شركة هندية محلية
متخصصة في تطوير البرمجيات وخدمات الدعم التقني ومراكز الاتصال.
أصبح مجمع بنغالور نموذجًا يُحتذى، فأعلنت الحكومة إنشاء ثلاث
مدن إلكترونية أخرى في ولايات مختلفة، لتوسيع قاعدة التنمية وتوزيع فرص العمل
جغرافيًا وعدالة.
اليوم، تبلغ صادرات الهند من تكنولوجيا المعلومات أكثر من 156
مليار دولار سنويًا، أي ما يعادل نحو 25 ضعف إيرادات قناة السويس، فيما تصدّر
مدينة بنغالور وحدها برامج وخدمات رقمية بقيمة 33 مليار دولار. ارتفع عدد سكان
المدينة من ثلاثة ملايين إلى أحد عشر مليونًا في أقل من عقدين، بينما تضاعف متوسط
دخل الفرد إحدى عشرة مرة، لتتحول بنغالور إلى واحدة من أكثر المدن عصرية وابتكارًا
في العالم، دون أن تفقد بعدها الاجتماعي أو التشاركي في التنمية.
لم تتوقف الهند عند هذا الحد؛ فهي اليوم تدرب أربعة ملايين
طالب في 1832 مؤسسة تعليمية متخصصة في مجالات الثورة الصناعية الرابعة، مثل الذكاء
الاصطناعي، والروبوتات، والنانو تكنولوجي، وتقنيات الخلايا الجذعية، والبيانات
الضخمة، والحوسبة السحابية، وسلاسل الكتل (البلوك تشين).
هذا الاستثمار في الإنسان يعكس جوهر اقتصاد السوق الاجتماعي
الذي يرى في المعرفة والمهارة أفضل أشكال رأس المال، ويعتبر العدالة الاجتماعية
شرطًا للنمو المستدام.
لقد أثبتت التجربة الهندية أن النهضة الحقيقية لا تقوم على
السوق وحده، ولا على الدولة وحدها، بل على تفاعلٍ عادلٍ بين الحرية الاقتصادية
والمسؤولية الاجتماعية.
طريق النهوض يبدأ من التعليم، وينضج بالابتكار، ويزدهر
بالتحول الرقمي.
هذا هو الدرس الذي تعلمته ألمانيا واليابان في الستينيات،
والصين في السبعينيات، والنمور الآسيوية في الثمانينيات، وتركيا والبرازيل والهند
في مطلع الألفية، ثم تبعتهما رواندا وإثيوبيا في العقد الأخير.
جميعها بنت نهضتها خلال أقل من عقد واحد من إصلاح التعليم وربطه
بالاقتصاد الإنتاجي والعدالة الاجتماعية.
فالمعجزات لا تولد من الصدفة، بل من رؤية علمية واضحة، وإدارة
تؤمن بالمجتمع، واقتصادٍ يوازن بين الحرية والمساواة، ويستثمر في الإنسان باعتباره
المحرك الأهم للتنمية الرقمية المستدامة.

























