سوريا في عهد ترامب… دولة تُعاد صياغتها أم ساحة تُدار بالتحكّم عن بُعد؟
زياد فرحان المجالي
في الشرق الأوسط لا تقع التحولات مصادفة، ولا تنبثق فجأة من فراغ. تتجمع
طبقاتها مثل غيوم ثقيلة قبل أن تصبّ المطر دفعة واحدة. وفي سياق هذا التحول الصامت
خرج دونالد ترامب بجملة مفصلية: "لا تضايقوا تطور سوريا.” جملة يريد البعض قراءتها
كتحول استراتيجي، بينما حقيقتها ليست أكثر من أمر عمليات في مشروع أكبر بكثير من
حدود دمشق.
فمن يقرأ الساحة يدرك أن واشنطن لم تغيّر موقفها من سوريا، لا حبًا ولا
قناعة، بل تبدّل أدواتها فقط. فالدولة التي تريدها أمريكا ليست سوريا القادرة، بل
سوريا القابلة للإدارة. وسوريا التي تنهض ليست هي الصورة التي تعمل عليها واشنطن
وتل أبيب منذ 2011، بل سوريا المضبوطة، المفككة، القابلة للتوجيه من الخارج.
منذ اليوم الأول للحرب أعادت القوى الكبرى صياغة الجغرافيا السورية. لم يكن
الخراب ولا النزوح ولا الانهيار الاقتصادي هو التحول الأخطر، بل تفكك المركز وظهور
ثلاثة كيانات وظيفية: كيان درزي يشكّل لإسرائيل منطقة عازلة، وكيان كردي يمثّل
لواشنطن قاعدة نفوذ دائمة، وكيان مركزي ضعيف يمثّل سلطة الشرع، لا يمتلك القدرة
على التمرد ولا يملك هامش العودة إلى موسكو أو طهران. هذه ليست قراءة سياسية، بل
خريطة حقيقية اكتملت خلال 14 عامًا وترسخت بالتفاهم الضمني بين الولايات المتحدة
وإسرائيل.
الحديث عن "سوريا المتعافية” خطاب للاستهلاك الإعلامي. فواشنطن لا تبني
دولًا بل تؤسس مساحات نفوذ، وتعيد هندسة الداخل بما يتناسب مع أدوات الضغط
والسيطرة. وسوريا التي تستعيد قوتها الإقليمية ليست جزءًا من الحسابات
الاستراتيجية الأمريكية، بل نقيضها. فواشنطن تريد دولة: قابلة للضغط، قابلة
للتفاوض، قابلة للاستثمار، غير قادرة على الاستقلال.
لذلك فإن كل كلام عن رفع عقوبات أو فتح باب التصنيع ليس "مساعدة”، بل تدوير
نفوذ يسمح لواشنطن بالدخول الاقتصادي دون السماح لدمشق بالوقوف على قدميها
سياسيًا. هي نافذة تُفتح بقدر ما تُغلق، وتُدار بقدر ما تُعطى، وتُحرك بقدر ما تُشل.
أما الذراع الإيرانية التي طالما استُخدمت ذريعة للتدخل فلم تعد المحرك
الرئيسي. فالشرع ليس وريثًا للمشروع الإيراني، ولا يمتلك البنية العقائدية التي
حكمت علاقة الأسد بطهران. والتحولات الشيعية في العراق أكدت أن الولاء يتجه نحو
حزب الله، لا نحو مشروع توسع إيراني مباشر، ما جعل سوريا خارج الحساب الإيراني
الفعلي. وبالتالي لم تعد واشنطن تسعى لقطع "النفوذ الإيراني في دمشق”، بل إلى
تثبيت بنية نفوذ أمريكية–إسرائيلية لا تتأثر بتبدل اللاعبين المحليين.
وهنا تتضح حقيقة رسالة ترامب لتل أبيب: لم يكن يقول "اتركوا سوريا تنهض”، بل
كان يقول: "لا تفتحوا جبهة جديدة قبل أن نُنهي هندسة الساحة.” فالحرب في الجنوب لا
تخدم أحدًا في هذه المرحلة: لا واشنطن التي تريد وقتًا لإعادة الضبط، ولا تل أبيب
التي تعلم أن الشرع ضعيف بما يكفي، ولا النظام نفسه الذي يحاول التقاط فتات شرعية
دولية.
ولهذا جاءت الرسالة الحقيقية: "أعطوا الشرع هامشًا يلتقط به أنفاسه… لكن
أبقوا سقف القوة مغلقًا.”
والقواعد التي تدار بها سوريا اليوم لا تتغير: التقسيم غير المعلن ثابت،
النفوذ الكردي خط أحمر أمريكي، المنطقة الدرزية خط أحمر إسرائيلي، دمشق لن تستعيد
دورها الإقليمي، وأي تعافٍ اقتصادي لا يُسمح بأن يتحول إلى قوة سياسية أو عسكرية.
هذه ليست "مرحلة إعادة إعمار”، بل مرحلة إعادة إدارة. وليست بداية نهضة
سورية، بل بداية تثبيت سوريا الجديدة: دولة موجودة لتُدار، لا لتعود.
فما دامت المعادلات الإقليمية قائمة، لن تُمنح سوريا فرصة العودة قوة
مركزية، ولن تُترك لتحدد مسارها الاستراتيجي، ولن تتعافى اقتصاديًا دون أثمان
سياسية قاسية. تصريحات ترامب قد توحي بالتغيير، لكن السياسة الأمريكية تقول العكس:
سوريا لن تُمنح فرصة النهوض… بل ستُمنح فقط فرصة البقاء.
والبقاء ليس مشروع دولة، بل مشروع إدارة. وفي سوريا اليوم، الإدارة لا تأتي
من دمشق… بل من خارجها.
·
نقلا عن راي اليوم















