حين يعجز التاريخ عن وصف الألم


د. هيفاء ابوغزالة
لم يعد بالإمكان النظر إلى شاشات التلفاز أو متابعة نشرات الأخبار.
لم تعد الصور العابرة مجرد مشاهد تُبث، بل أصبحت كوابيس تسكن العقول والقلوب. صور
أطفال غزة، وقد تحولت طفولتهم إلى جثامين صغيرة ملفوفة بالأكفان، مشاهد أمهات
يبكين بمرارة لا تحتمل، ووجوه شاحبة أنهكها الجوع والحصار، كلها أصبحت جزءاً من
يوميات مؤلمة لا تنتهي.
ومن بين هذه الصور القاسية، تبرز صورة
تفوق كل احتمال: كلب يحمل رضيعاً بين أنيابه. صورة تختصر انهيار القيم الإنسانية
إلى أدنى مستوياتها. أي قلب يمكن أن يطيق رؤية كهذه؟ وأي ضمير يمكن أن يبقى ساكناً
أمام هذا الانحدار المروع؟
المجازر والقتل والتجويع والإذلال لم
تعد حوادث عابرة، بل تحولت إلى سياسة ممنهجة، وإلى مشهد يومي اعتاد عليه العالم.
الأخطر من ذلك أن من يرتكب هذه الجرائم لا يبدو مجرد متجاوز للقانون أو متجرد من
الأخلاق، بل غارق في لذة التوحش، مستمتع بإذلال الضحايا، وكأن القتل صار عرضاً
مسرحياً يعاد تقديمه أمام صمت عالمي مريب.
رغم القرارات الأممية، ورغم النداءات
المتكررة لوقف سيل الدم، يواصل الكيان سياسة الصمم المتعمد. يواصل قصفه، حصاره،
وقتله، وكأن لا قانون ولا ضمير ولا رادع يمكن أن يوقفه. والأنكى أن صرخات الأطفال،
وأنين الأمهات، ودموع الشيوخ لا تجد صدى في آذان مجتمع دولي فقد شجاعته، أو تواطأ
بصمته.
هنا يطل السؤال الجارح: ماذا سيكتب
التاريخ عن هذه الحقبة من الزمن؟ هل يستطي قلمه لوصف كل هذا الألم؟ هل يستطيع أن
يجسد لحظة طفل يبحث عن والدته بين الركام، أو أم تحمل أشلاء ابنها بيدين مرتجفتين؟
هل يمكن أن يكتب التاريخ عن عالم رأى كل هذا وسكت؟
ربما سيكتب التاريخ أن الإنسانية وصلت
إلى حافة الانهيار. ربما سيذكر أن شعوباً بأكملها تُركت لتواجه الجوع والقتل
وحدها. وربما سيكتب، بحبر من دموع وأوجاع، أن الضمير البشري قد مات، وأن الوحشية
أصبحت لغة العصر.
لكن رغم ذلك، هناك حقيقة لا يمكن محوها:
أن دماء الأطفال ستبقى شاهداً أبدياً، وأن الألم الفلسطيني سيظل ندبة في جبين
العالم. سيكتب التاريخ، مهما حاول أن يخفف من فداحة الجريمة، أن غزة كانت امتحان
الإنسانية الأكبر، وأن الكثيرين سقطوا فيه.