الهوية الوطنية بين الوعي والانغلاق
د. طارق سامي خوري
تُختَزَل "الهوية” في
كثيرٍ من الأحيان إلى مجموعة صفات شكلية أو ثقافية أو جغرافية، تُمنح أو تُسحب حسب
مزاج المرحلة السياسية، وكأنّها بطاقة دخولٍ إلى الانتماء. وهذا أخطر ما يصيب
المجتمعات، حين تتحوّل الهوية من رابطة وعيٍ وانتماءٍ إنسانيٍّ جامع إلى أداة فرزٍ
واتهامٍ وإقصاء.
فالهوية ليست مزيجًا من
اللكنة واللباس والعادات، ولا هي شعور متعصّب لمكانٍ على حساب المكان الآخر، بل هي
وعيٌ بالحياة المشتركة والمصير الواحد، كما قال أنطون سعاده:
«إنّ القومية ليست مسألة
دمٍ أو دينٍ أو لغة، بل هي وحدة حياةٍ في أرضٍ واحدة ومجتمعٍ واحد.»
الذين يحصرون الهوية في
مواصفاتٍ ضيقةٍ، يحاولون أن يُلبسوها لونًا واحدًا وصوتًا واحدًا، بينما الحقيقة
أن الهوية، في معناها العميق، فسيفساء من التاريخ والتجارب والتنوّع، تتوحّد في
مشروعٍ حضاريٍّ جامع، لا في شعارٍ سياسيٍّ مؤقّت.
الدولة أو الكيان
السياسي، أيًّا كان اسمه، لا يخلق هوية جديدة من العدم. الهوية تُصاغ عبر قرونٍ من
التفاعل الاجتماعي والحضاري، وهي أوسع من الحدود التي رُسمت على الورق بعد الحروب
والاتفاقيات. الكيانات، كما أشار سعاده، هي نتائج ظرفٍ تاريخيٍّ محدد، أما الشعوب
فهويتها الحقيقية تتجذّر في تاريخها الطويل المشترك، في اللغة، في الأرض، وفي
الذاكرة الجماعية التي لا يمحوها تبدّل الحكومات ولا خرائط الاستعمار.
إنّ تحويل الكيان إلى
مقدّسٍ جديدٍ يُقصي مَن لا يتوافق مع تعريفٍ ضيّقٍ للانتماء، هو انتحارٌ حضاريّ،
لأنه يُنكر الواقع الحيّ الذي تتكوّن منه الأمة.
من يرى الهوية كملكيةٍ
حصريةٍ لجماعةٍ دون أخرى، يجهل أنّ الهوية لا تُمنح من فوق، بل تُكتشف من عمق
الحياة المشتركة. الهوية لا تحتاج إلى لجانٍ لتحديدها ولا إلى صكوك انتماء، بل
تحتاج إلى وعيٍ جمعيٍّ يربط الحاضر بالماضي، ويستشرف المستقبل ضمن مشروعٍ واحدٍ
للنهضة. وهنا يكمن الفرق بين من يعيش الهوية كمسؤولية، ومن يتاجر بها كشعار.
ليس مَن يختلف مع
التعريف السائد للهوية خائنًا، بل ربما يكون أكثر وفاءً لها، لأنه يدرك أنّ الهوية
الحقيقية لا تُختزل في الحدود، بل في الوعي والموقف. أما أولئك الذين يتشدّقون
باسم الهوية ليميزوا بين أبناء الوطن الواحد، فهم في الحقيقة أعداء الهوية، لأنهم
يفرّغونها من معناها الجامع.
الهوية ليست جدارًا
يُفصل الناس، بل جسرًا يُوصلهم إلى وعيٍ أرقى بأنّهم شركاء في الحياة والمصير. وكل
من يحاول أن يحتكر الهوية في تعريفٍ ضيّقٍ، إنما يقتل روحها ويحوّلها إلى أداة
سلطة. أما الذين يؤمنون بوحدة الحياة والكرامة والمستقبل المشترك، فهم وحدهم
الحاملون للهوية الحقيقية، هوية الإنسان والكرامة والانتماء إلى الأرض لا إلى
العنوان.

























